اخبار الحوادث

Saturday, June 13, 2009

قصة عم أمين الفلاح

الساعات الأخيرة

قصة مسلسلة منفصلة الحلقات

بقلم كل من :

ا. عماد حجاب

ا. يمنى حسن حافظ

د. أحمد مراد

الحلقة الخامسة

عم أمين الفلاح

بقلم د. أحمد مراد


عم أمين الفلاح
من العجيب أنك بمجرد نطقك لأسمه تشعر بارتياح
ربما لأن المعنى جميل
بالرغم من أن كثيرين يحملون أسماء ذات معان أروع إلا أن نطقها لا يعطيك نفس الاحساس بالراحة حينما تنادي أو تنطق اسم عم أمين
وهو من القلة القليلة التي ما زالت تحمل عبق الفلاح المصري الأصيل
ذلك الفلاح الذي يحمل حب أرضه في قلبه أكثر من حبه لذاته
فكل ذرة تراب بأرضه حتما قد لامست يده أثناء رعايته لها وزرعه وحصاده لمختلف المحاصيل بها
ويداه المتشققتان الجافتين هي وسامه الحقيقي الذي يفخر بأنه يحمله دلالة أنه ما زال بصحته ويعمل في أرضه بيده
ينقم كثيرا على تطورات العصر الحديثة والسريعة والمفاجئة التي غيرت وبدلت كل شيء
بعد أن كان الفلاح يستيقظ فجرا ليؤدي صلاة الفجر ثم يذهب لأرضه قبل طلوع ضوء الشمس ليعمل بها والندى يتقطر من النبات كحبات اللؤلؤ
ويملأ صدره بأنقى هواء على وجه الأرض
أصبح الفلاح المصري الآن الساهر أمام الفضائيات الى الفجر لا يقوي على تحريك جسده قبل توسط الشمس بكبد السماء
كانت مهنة الفلاح أنقى وأرقى وأطهر مهنة على وجه الأرض
فهو يعمل بيديه في أرضه ليخرج منها ثمرا مختلفا ألوانه يعده كأولاده لذا يرعاه حق الرعاية بلا غش ولا تدليس ولا رشوة ولا محسوبية لأنه يعمل لنفسه
الآن يذهب الفلاح لاستئجار آخرين للعمل عنده وهذا الأجير قد يجيد عمله أو لا على حسب ضميره
وحتى اذا أجاده فلن يزرع أو يحصد بنفس الحب والمشاعر التي تفيض لو كانت هذه نبتته
حتى الحياة الاجتماعية للفلاح تغيرت بشكل كبير
كان في السابق لكي يتزوج يقوم أبوه باعداد حجره له ولا يحتاج من الاثاث الا سرير وبعض الآنية ويذهب الحاج فلان أبوه إلى الحاج فلان والد العروس ليتم الاتفاق ومراسم الزفاف في خلال اسبوع
وبالرغم من ضيق ذات اليد وقتها كان يتم انجاب ما يقرب من عشرة أولاد واللقمة البسيطة كانت تكفيهم جميعا للعيش وسد الرمق ويعملون جميعا بالأرض لأن العمل عبادة ولدوا وتربوا عليها
أما الآن
أصبح يبحث عن مسكن خاص مثله مثل الجميع بكافة الأثاث وأصبح والد العروس يشترط مهرا مبالغا فيه فتعقد كل شيء
والأولاد الآن
لم يعودوا هم أبناء الأمس
أصبح العمل بالأرض مهانة
وكلمة فلاح تعد شتما
ويكون في قمة الحرج إذا اكتشف أحدهم من لهجته أنه من منطقة ريفية
وهذا أكثر ما يعاني منه الحاج أمين الآن
ولده الكبير المتولي
كان النبوغ يظهر عليه من صغره
ونصحه محفظ القرآن بكُتاب القرية أن يلحقه بالتعليم فالولد نبيه ويتوقع له أن يكون طبيبا كبيرا
وكان المتولي هو الوحيد في أخوته الذي التحق بالتعليم
وقد كان ما توقع له شيخه
كان الولد سريع التفوق والنبوغ
ولكن لم يدخل كلية الطب كما توقع له
كانت كلية العلوم بجامعة القاهرة هي نصيبه
ولأنه نابغة فقد كان من أوائل دفعته وأصبح معيدا بها
ولهذا كانت إقامته بالقاهرة
كان المتولي ناقما بشدة على أصله وجذوره
أول ما كان ينقم عليه هو اسمه هذا
كان ثقيلا وعجيبا وسط زملائه وكفيل بكشف جذوره دون لهجته ومطالعة بطاقته الشخصية
ولذا كان المتولي دوما يحاول الانسلاخ من هذه الجذور بأن يلتصق ويتفاعل مع زملائة أبناء الطبقات الراقية
ولكن هذا التفاعل كان يكلفه مبالغ طائلة
وراتبه كمعيد بالكلية لم يكن كافيا لتغطية هذه المصاريف
فكان يلجأ لأبيه
الذي يتعجب ويقول له .. (( ظننت أن مصاريف تعليمك هي نهاية المطاف .. ولكني اكتشف أنك كل يوم تطلب أكثر من كل مرحلة سابقة ))
وهو يقول له .. (( يا أبي أنت لا تدرك ماذا يعني معيد بالجامعة إنها تتطلب مصاريف طائلة للملبس والمأكل وأسلوب المعيشة ))
يهز الرجل رأسه بطيبة ويقول له .. (( اذا كان العائد منها لا يغطي مصاريفك ما فائدتها اذا ؟؟ ))
ولكي يكسب المتولي الرهان يضرب على مشاعر أبيه النبيله فيقول له ..
(( يا أبي أنا الآن من يُعلم أبناء مصر كلها بكلية العلوم .. تخيل أنه سيخرج من تحت يدي يوما رجل مثل زويل ..))
كان أبوه يجهل من هو زويل ولكن هو حتما رجلا عظيما ما دام ابنه يضرب به المثل
ولأنه يثق بابنه ويثق بأنه لا يبدد ماله فيما لا يستحق كان يعطيه ما يريد
وكان المتولي يرهقه بكثرة مطالبه التي تتكرر وبسرعة
حتى كان هذا اليوم
يوم أن طلبه ابنه وقال له .. (( أريدك يا أبي للضرورة القصوي ))
قال له الحاج أمين في جزع .. (( ماذا هناك يا ولدي طمئني فقط ؟؟ ))
فيقول له المتولي بنفاذ صبر .. (( يا أبي لن أتمكن من شرح الأمر في التليفون هذه المرة أريدك شخصيا .. ))
.. (( اذا فلتأت أنت الينا لكي يراك أخوتك وأولادهم فأنت لم تأت لبلدك منذ سنين .. ))
.. (( يا أبي أنت تعلم ظروف الكلية وصعوبة أن تكون معيدا بالجامعة .. ))
فيقتنع الأب الطيب ويحدد له اليوم التالي
ويجهز له زيارة كبيرة فيها من كل خيرات الفلاح المصري من سمن بلدي نقي
وجبن أبيض صحي
ولبن حليب صاف
وفطير مشلتت رائحته كافية لإشباع نصف سكان القاهرة
وغيرها الكثير
وينطلق اليه وهو سعيد بحمله الثقيل هذا وهو لا يدري بأن ابنه ينادي على البواب ليأخذها بعد ذهابه
فهو لا يأكل إلا من مكدونالد أو مؤمن أو كنتاكي
وهو لا يدري أيضا لماذا يريده ولده
وآه لو علم أن السبب فيما سيلاقي بعد قليل إنما بسبب بسنت
تلك الفتاة الجميلة الرقيقة التي انبهر بها المتولي منذ أول مرة رآها
وهي المعيدة معه بنفس القسم
هي ابنه أحد كبار رجال الأعمال بالبلد
ولهذا لها أسلوب حياة يختلف تماما عن بيئة المتولي
وهو وجد أن ارتباط بسنت به انما هي الخطوة الأكيدة للتخلص تماما والانخلاع من جذوره التي يراها مشينة
ولهذا كان يشاركها في كل شيء ابتداءا من العمل حتى لحظات المرح
والخروج الى الأمكان العجيبة التي تذهب اليها ليلا
وبدأ أيضا يشاطرها تلك المشروبات المقززة
ويتعاطي الأقراص اياها التي (( تعمل دماغ )) على حسب قولها ..
وكان آخر ما تبقي معه من تربية أبيه الصلاة
تركها منذ أمد
لكي ينغمس في دنيا الملذات والعالم السحري الذي كان يتوق اليه
وأخيرا
قالت له بأنها ستسافر لتحصل على الماجستير من لندن
ابتلع ريقه بصعوبة وقال لها كيف حصلت على هذه المنحة
ضحكت وقالت .. (( أنا لا أنتظر ولا أبحث عن منح .. أبي سيدفع لي كل المصاريف ))
خرج صوته متحشرجا وقال لها
.. (( وكم هي هذه التكاليف ))
قالت باستهتار .. (( إنها بضع مئات من الألوف فقط ))
دارت رأسه وهو يشعر بأن كل ما فعل سيضيع منه هباءا اذا ضاعت منه بسنت
لهذا الحل الوحيد هو مرافقتها
سألها قائلا .. (( هل لو حصلت على المال يمكنني مرافقتك ))
.. (( واوو بالطبع .. إنها خطوة شجاعة للغاية منك .. ))
ولهذا
طلب أبيه
الذي أخذه بالحضن وهو يشعر بأن قلبه يخفق بين ضلوعه بالفرحة لرؤية ولده
وهذا الولد انسلخ منه بسرعه وضجر
وبدأ مباشرة دون أي مقدمات في طلبه
قال له بأنه يريد مبلغا كبيرا للسفر الى لندن والحصول على الماجستير هناك
قال له الحاج أمين
.. (( وهل كل زملائك يفعلون هكذا ؟ ))
.. (( المميزون فقط يا أبي .. من يفعلها يكن له مكانة أخري في البلد .. قد تجدني يوما أحد الوزارء بسبب هذا ))
.. (( ولكن يا ولدي أنا لا يمكنني تدبير هذا المبلغ .. ))
.. (( لهذا طلبت مجيئك يا أبي لأن مطلبي سيكون صعبا .. ))
سأله الحاج أمين بتردد
.. (( وما هو ؟؟؟ .. ))
.. (( أن تبيع قطعة أرض وتعطيني ثمنها ))
انتفض الحاج أمين واقفا
وقال له .. (( لا يا متولي .. ليس مطلبا صعبا .. إنه المستحيل بعينه .. أنت تطلب مني تقطيع جسدي وبيعه وهذا ما لا أستطيعه .. ))
قال له المتولي في تبجح شديد
.. (( يا أبي احسب لي ما هي القطعة التي ستكون في ميراثي ولتبعها وسأكتب بعدها تنازلا رسميا عن أي حق لي في الميراث فيما بعد .. ))
كان الحاج أمين غير مصدق لما يسمع
فقال لولده في ثورة
.. (( أتريد أن ترثني حيا يا متولي .. لا يا ولدي .. لن تحصل على مليم مني بعد ذلك .. وبعد وفاتي ستأخذ حقك من أخوتك وبرضاهم ))
.. (( يا أبي أقول لك ستكون نقلة كبيرة لي .. بعدها سأشتري لك ضعف ما بعت لي ))
.. (( لا أريد منك شيئا .. وأنت أيضا أصبحت رجلا ذو وظيفة كبيرة ولم أعد أطيق تكاليفك فتلعتمد على نفسك وكفاك دلالا .. ))
كان المتولي يعلم بأن أبيه اذا أغلق تفكيره على أمر لن يتراجع عنه أبدا
لذا قال له .. (( اجلس يا حاج سأعد لك كوب الشاي الذي تحبه ونتحدث بعدها .. ))
وقبل أن يهم أبيه بالرد عليه انطلق وترك والده يضرب كفا بكف وهو يتعجب
كان الإبن قديما يكون سندا لوالده .. ورزقه الله بهذا الولد ليستنزفه ويوجع قلبه
ما هو الذنب الذي ارتكبه ليكفره الله له بولده هذا ؟؟
وضع له ابنه الشاي وقال له .. (( تفضل يا حاج اشرب وهديء أعصابك أولا .. ))
رشف الحاج أمين بضع رشفات
وبعد أن أنهي كوبه
تحدث اليه المتولي ثانيا وقال .. (( اذن يا أبي فلتسحب سلفة من البنك برهن الأرض .. ))
قام الحاج أمين واقفا مرة ثانية وقال .. (( انس أمر هذه الأرض تماما .. وانس أمر هذا المبلغ .. تصرف أنت واسحب السلفة بضمان وظيفتك الكبيرة .. ))
.. (( يا أبي اذا فعلتها لن يمكنني السفر قبل سداد المبلغ لماذا تعقدها .. أليس لي حق في الأرض مثل أخوتي ؟؟ .. ))
كانت كلمة الأرض كلما خرجت من فم ولده أثارت أعصابه أكثر
لذا قال في عصبية ..
.. (( طلبت منك عدم ذكر أمر الأرض وأنت لا تتوقف ولكي أنهي هذا النقاش .. أنا عائد الآن الى بلدي وأرضي عرضي التي رويتها بحبات عرقي .. وأكررها للمرة الأخيرة
لن تحصل مرادك إلا بعد موتي ))
وقبل أن يجيبه ابنه انطلق خارجا وهو يموج بكل انفعالات الألم والحسرة والغضب
كان خارجا من بلده فجرا
وما زال الصباح باكرا
وهو عائد اليها
ماذا يقول لأولاده اذا عاد مبكرا هكذا ؟
يقول لهم أخوكم الكبير المتعلم ذو الوظيفة الكبري يريد بيع أرضكم التي تكدون فيها بعرقكم ودمائكم
ذهب الى الموقف
سمع ذلك الصبي الذي ينادي المؤسسة عبود فاستقل السيارة
ولأن احساس المرارة كان يغمره كان يشعر بنفسه غير طبيعي
ولهذا عقد ساعدية على مسند المقعد الذي أمامه وارتكن برأسه عليه
والعجيب أنه لم يشعر مطلقا بالصراخ والصياح الذي حدث
وكان أحد شهداء هذا الحادث

*****
دخل كريم على العميد التوني وهو يحمل تقريرا ويقول له
هناك أمر ستتعجب له بقوة يا سيادة العميد
نظر اليه العميد التوني بتساؤل قائلا .. (( ماذا عندك هذه المرة ؟ .. ))
.. (( الستة عشر راكبا أحدهم لم يمت في الحادث ))
نظر اليه العميد التوني بدهشة وقال .. (( ماذا ؟؟ .. من هو ؟؟ .. ))
.. (( أنه الفلاح المسمى أمين .. ))
اتسعت عينا العميد التوني بدهشة أكبر وقال .. (( ولكني تيقنت من موته بنفسي وقد كانت رأسه مهشمة .. ))
.. (( نعم يا سيدي كانت مهشمة وقد تؤدي الى وفاته لو كان على قيد الحياة .. ولكنه لم يمت بسبب الحادث فقد مات قبله .. وهذا في تقرير الطبيب الشرعي .. ))
.. (( كيف هذا يا كريم ؟! .. الفارق بين استقلاله للسيارة والحادث دقائق ومهما كانت براعة الطب الشرعي عندنا لن يمكنه تحديد هذا الفارق الزمني أبدا .. ))
.. (( لم يتم تحديد سبب الوفاة بالفارق الزمني يا سيدي .. لقد مات مسموما .. وكانت بقايا السم ما زالت بمعدته .. ))
أمسك العميد التوني برأسه التي بدأت تدور فها هي قضية قتل تتفرع من القضية الكبرى
لذا طلب أوراق الرجل
وقلبها وكان بها ورقه فيها رقم تليفون ولده المتولي وعنوانه بالتفصيل
طلبه ليقول له .. (( معك العميد التوني من قسم شرطة شبرا الخيمة .. ))
.. شعر برعشة في صوت المتولي وهو يقول .. (( أهلا بك يا أفندم .. ماذا هناك ؟ .. ))
.. تكرر الموقف وهو يحاول انتقاء عباراته وهو يقول .. (( نأسف لإخبارك بوفاة الحاج أمين والدك .. ))
وقبل أن يكمل جملته اذا بالمتولي يقاطعه قائلا في استنكار شديد .. (( كيف هذا ؟ . وماذا حدث ؟؟ .. لقد خرج من عندي دون أن يأكل أو يشرب شيئا .. ))
توقف العميد التوني كثيرا أمام هذا الرد وبخبرته وحنكته استشعر بكل شك الدنيا نحو هذا الولد ..
ما الذي يحاول ابعاده عن نفسه وكيف علم بأن سبب الوفاة متعلق بالمأكل والمشرب
لهذا لم يحاول إخباره بالحقيقة وقال له .. (( لقد توفي والدك في حادث سيارة .. ونريدك حالا للتعرف على الجثة واستلامها .. ))
اخترقت تنهيدة الراحة أذني العميد التوني مما أكد الشك في صدره
ولهذا أكد على السرعة الفورية وعدم التأخر
وعلى الفور طلب من كريم أخذ كل الإجراءات الرسمية وسرعة التوجه الى شقة المتولي وتفتيشها تفتيشا جيدا وقلب جميع أركانها
وكانت المفاجأة
اكتشاف بقايا السم في الكوب الذي يحمل بصمات الحاج أمين والذي لم يجد المتولي فرصة لتنظيفه
فبعد انصراف والده ظل يجوب شقته ذهابا وايابا في عصبية شديدة
هل حقا بكل سهولة ستضيع منه بسنت
لما هذا التعنت من ابيه نحو الأرض التي يصرف عليها ولا تعطيه شيئا وثمنها مئات الألوف
إنها حقه مثله مثل أخوته
ولهذا فهو غير نادم
أبوه يقترب من السبعين
وهو سيموت خلال سنوات
ولكن بعد فوات الأوان وتكون بسنت قد ضاعت منه
ولهذا وضع له السم دون ترتيب مسبق
وحدث ما حدث
وأفضل ما فعله أبوه هو انصرافه بسرعة
لكي تحدث الوفاة بعيدا عنه ولكي لا تطوله الشبهات
فالقاتل لا يرث
ولكن
انكشف كل شيء
جريمة قتل مع سبق الإصرار والترصد
وقتل من
أباه
فياله من قاتل خسيس يستحق الإعدام ألف مرة على فعلته
----
إلى اللقاء مع راكب آخر إن شاء الله تعالى

يتبع بإذن الله

No comments:

Engageya