اخبار الحوادث

Thursday, June 11, 2009

محمود -بقلم ا. عماد حجاب

الساعات الأخيرة

قصة مسلسلة منفصلة الحلقات

بقلم كل من :

ا. عماد حجاب

ا. يمنى حسن حافظ

د. أحمد مراد

الحلقة الرابعة

محمـــود

بقلم ا. عماد حجــاب

ضربت الأم صدرها و شهقت فى فزع ، و لم تتحملها رجلاها فكادت تتهاوى على الأرض لولا أن أسرعت و استندت إلى المقعد المجاور لسرير ابنتها ....
و جلست على حافة السرير و هى مذهولة ممتقعة و أخذت تتمتم بكلمات خفيضة لن تسمعها إلا لو اقتربت منها و أرهفت السمع:
الأم : يادى المصيبة .... يا دى المصيبة ... أبوك لو عرف حيقتلنا
أما ابنتها سميرة بنت العشرين فقد تكورت على نفسها فى ركن السرير و أسندت ظهرها إلى الحائط ووضعت وجهها بين يديها و أسندت يديها إلى ركبتيها و أخذت تنهنه
كانت الصدمة أعظم من أن يتحملها قلب الأم المسكينة ، و الأفظع من ذلك أنها تتخيل الساعات المقبلة بكل ما تحمله من أحداث يقشعر بدنها لمجرد أن تتخيلها
تغطى الأم وجهها بيديها هى الأخرى و تنهنه ، و تنتفض لما تتذكر غضبة زوجها الكاسحة التى لا تبقى و لا تذر
كارثة ... جائحة ... قل ما تشاء ...
ظل عقلها يعمل بسرعة الصاروخ ... ماذا تصنع ... هل تخبره بالحقيقة ... هل تخبره بما حدث .... و لكنه لا يتفاهم فى مثل هذا ... و كيف يتفاهم ؟
هل تستطيع أن تخبئ عنه هذا الأمر ... و إن استطاعت أن تخبئه فإلى متى ...
المصيبة آتية لا محالة ..
نظرت إلى ابنتها بمزيج عجيب من الشفقة و الألم و الغضب و الثورة
ثم عادت إلى أفكارها مرة أخرى ...
ماذا تصنع ؟.... هل تهرب مع ابنتها ؟ ... هل تتصل بالشرطة ليحموها مما سوف يصنع زوجها ؟
و لكنها ستكون عندئذ فضيحة مجلجلة
نظرت إلى ابنتها بغل و غضب
الأم : حرام عليك ... حرام عليك تعملى فينا كده
سميرة : أنا آسفة يا ماما ... سامحينى !
الأم : أسامحك .... أسامحك إزاى ؟ و إن سامحتك أنا أبوك حايسمحك ؟
تنفجر سميرة فى البكاء مرة أخرى
الأم : إزاى حصل اللى حصل ؟
سميرة : ( فى انكسار ) غصب عنى و الله يا ماما
الأم : غصب عنك ؟ غصب عنك إزاى؟ ... أنا مش موعياك و مفهماك على كل حاجة ؟
تنفجر سميرة فى البكاء مرة أخرى و تقول من بين دموعها
سميرة : ما أخدتش بالى و الله يا ماما
تقوم الأم و تدور فى الغرفة و الذهول يكتنفها
الأم : و حنعمل إيه مع خطيبك و أهله ؟
سميرة : يا ماما مش هى دى المشكلة ... المشكلة فى بابا لو عرف
الأم : مش مشكلة إزاى ؟ ... الناس حتاكل وشنا
سميرة : و حنعمل إيه يا ماما ؟
الأم : (بغل) جاية دلوقتى تقوليلى حنعمل إيه ؟ بعد ما الدنيا اتطربقت فوق دماغنا ؟
سميرة : (بمسكنة) يا ماما لازم نفكر حنعمل إيه
الأم : أنا بافكر أتصل بابوك و أقوله فى التليفون
سميرة : إشمعنى ؟
الأم : على ما ييجى لحد هنا يكون هدى شوية
سميرة : صح ... بدل ما يعرف هنا و يكون لسه شايط
تخرج الأم إلى الصالة و تتبعها ابنتها ، و تمسك الأم بسماعة الهاتف لتتصل بمحمود زوجها فى العمل ، و تضرب الرقم ثم تسمع الجرس ..و لكنها تحجم فى آخر لحظة و تغلق الخط
سميرة : إيه يا ماما ؟ ... قفلت ليه ؟
الأم : ( ترتعش ) مش قادرة ... خايفة ... أبوك ممكن يصور فيها قتيل
تلطم سميرة خديها ،و ترتمى على الكنبة
سميرة : يا ربى ... أعمل إيه بس ؟
الأم : شفت عمايلك حتودينا لفين ؟
سميرة : يا ماما هو أنا أول واحدة ؟ .... ما فيه غيرى كتير حصلهم كده
الأم : أيوه ... بس أبوهم مش زى أبوك ... ده ممكن يقتلك
ثم تقوم لتدخل حجرتها
سميرة : حتروحى فين يا ماما و تسيبينى ؟
الأم : حاغير هدومى ... إنت مش شايفانى لسة بهدوم الشارع
سميرة : طيب مش حتكلمى بابا ؟
الأم : مش عارفة و الله يا بنتى ... حاغير هدومى و بعدين ربنا يحلها
*******
محمود عبد الظاهر الوكيل ... ممرض فى مستشفى التأمين بشبرا نهاراً ، و ممرض فى مستشفى الرحمة الخاص ليلاً
أخذ ينظر فى ساعته بقلق كانت الساعة قد تجاوزت السابعة بعشر دقائق ، مما يعنى أن ورديته قد انتهت منذ عشر دقائق و لم يحضر زميله محسن ليتسلم منه الوردية ، معنى هذا أن يتأخر على مستشفى التأمين
محمود: حاضر يا محسن الكلب ... عشر دقايق ؟
دخل الفراش يحمل صينيته ووضع كوباً من الشاى على مكتب محمود ، الذى نظر إليه شذراً و سأله بغضب :
محمود : إيه ده ؟
الفراش : ده شاى على مزاجك يا ريس محمود
محمود : و مين طلب منك شاى ؟ .. إنت عارف أنا ما بشربش حاجة هنا خالص
الفراش : ما أنا عارف يا ريس... ده الأستاذ / يحيى هو الى عازمك
لانت ملامح محمود و احتلت الابتسامة وجهه و أمسك بكوب الشاى بلهفة
انصرف الفراش و هو يقول لنفسه :
الفراش : أففف ... دا إيه ده ؟ حانوتى ... جلدة ... أنا عمرى ما شفت بخل زى ده ... جتك البلا فى بخلك ... عشر سنين متشربش كباية شاى ؟
بعد انصراف الفراش أمسك محمود بالهاتف و طلب الأستاذ يحيى مساعد مدير الشئون الإدارية بالمستشفى
محمود : إيه ده يا أستاذ يحيى ؟... ماكنش له لزوم و الله
يحيى : يا راجل متقولش كده ... إحنا حنبقى أهل
محمود : طبعاً طبعاً ... يا ريت بقى متنسوش تشرفونا النهاردة بعد المغرب
يحيى : و دى حاجة تتنسى يا راجل .. إن شاء الله حنكون عندكم فى الميعاد
كان يحيى قد خطب ابنة محمود إلى ابنه ياسر ، و كان محمود سعيداً بهذا الارتباط الذى يقربه من مدير عام الشئون الإدارية ...
لذا كادت امرأته تصاب بأزمة قلبيه حين قال لها منذ يومين :
محمود : بقولك إيه يا نعمات ؟
نعمات : أيوه
محمود : مش المفروض يعنى ... بقول
نعمات : فيه إيه يا خويا ...؟
محمود : بقول يعنى كنا نعزم الأستاذ يحيى و ـأهل بيته زى ما عزمونا ... على الأقل نرد العزومة
كادت زوجته أن تصعق من هول المفاجأة ، لذا فقد ظنت بعقلها الظنون أو أن سمعها قد عطب ، فاستفسرت
نعمات : بتقول إيه ... ؟
محمود : ( متبرما) فيه إيه يا نعمات ... ما انت سمعتينى كويس
نعمات : أيوة سمعتك بس مش مصدقة
محمود : ( بضيق) لأ صدقى يا اختى ... ما هو لازم نتنيل نرد لهم العزومة
نعمات : و الله كنت عاوزة أقولك كده من ساعتها بس مكنتش قادرة
محمود : أفففف ..... طيب حانعمل لهم إيه ؟
نعمات : شوف ... عاوزين نبين لهم إنهم مش أحسن مننا
محمود : يعنى إيه ؟
نعمات : يعنى هم عملولنا بط و حمام فراخ .... لازم نرد عليهم بحاجة أكبر
محمود : ( بذهول ) إنت باين عليك اتجننت ... عاوزانى أعمل إيه ... أدبح لهم خروف؟
نعمات : لأ..... لا خروف و لا حاجة ... بس لازم نشرف نفسنا و نشرف بنتنا قدام الناس
محمود : يعنى حنتهبب نعمل إيه ؟
نعمات : يعنى على الأقل نجيب ديك رومى كده سمين ...يبقى كويس
أحس محمود أن الأرض تدور به و أنه على وشك الإغماء
محمود : ديك رومى إيه يا ولية يا مجنونة انت ... إنت عارفة الديك الرومى بكام ؟
نعمات : و أنا حاعرف منين ؟ هو عمره دخل بيتنا
محمود : و لا حيدخل .... آل ديك رومى آل .... جتك ديك رومى لما ينقرك فى عينك !!
نعمات : استنى بس ... لو حسبتها حتلاقيها أوفر و الله
محمود : بقولك إيه يا ولية يا مسرفة انت .... خلاص انسى موضوع العزومة ده ... أنا حابقى أعزمه على كباية شاى فى المستشفى و خلاص ... و تبقى دى قصاد دى !!
نعمات : يا دى الكسوف ... كباية شاى يا راجل .... بقى هو يعزمنا على بط و فراخ و حمام و انت تعزمه على كباية شاى ؟
محمود : أقول ليك إيه ؟ .. ما انت بتاكلى فى أتة محلولة ... هو انت عارفة الفلوس دى بتيجى منين ؟
نعمات : طيب قولى انت ... إيه اللى كان فى بالك ؟
محمود : يعنى ... كنت بقول نجيب فرخة
نعمات : يا نهار اسود ... فرخة واحدة
محمود : آه فرخة واحدة .. هى ميغة ؟.. فرخة واحدة كفاية قوى
نعمات : إزاى بس ؟ إذا كان هو و مراته و ابنه و أنا و انت و سميرة نبقى ستة ... يعنى لو كل واحد خد ربع مش حتكفى
محمود : كل واحد فيهم ياخد ربع
نعمات : طيب و الربع الرابع ؟
محمود : تاخده سميرة
نعمات : طيب و أنا و انت ؟
محمود : أنا حاقول إنى عندى النقرس ... مباكلش لحوم !!
نعمات : نقرس ؟ دا انت عندك جفاف
محمود : بقولك إيه ... مش عاوز استظراف دلوقتى...
نعمات : طيب و أنا ... حنقولهم إيه ؟
محمود : نقول إنك عندك السكر و الدكتور مانعك من أكل الفراخ عشان أنفلوانزا الطيور
نعمات : يا راجل حتجيبلى السكر عشان ربع فرخة ؟ و الله ما ينفع أبداً ... دى تبقى فضيحة
محمود : ولا فضيحة ولا حاجة ... انت اللى بتكبرى كل حاجة كده
نعمات : يا محمود و الله ما حينفع .. الناس حتاخد بالها
يصمت محمود قليلاً و كأنه يفكر فى معضلة ثم يتهلل وجهه
محمود : بس لقيتها ..
نعمات : خير .. ؟
محمود : إنت تجيبى وركين زيادة من عند الراجل بتاع الوراك
نعمات : (تنفخ فى ضيق ) أستغفر الله العظيم ..... يا رب ارحمنى
محمود : ما هو بصى ... أنا عارف لو مشيت وراك حيتخرب بيتى
نعمات : يا محمود و الله اللى بقولك عليه ده هو أحسن حل و مش حيكلفنا كتير .. مفيش أحسن من الديك الرومى ... قيمة و منظر و مش غالى
محمود : يا ولية متغيظنيش بموضوع الديك الرومى ده ... معاشرانى بقالك واحد و عشرين سنة و لسة زى ما انت متغيرتيش
نعمات : إسمع بس حاقولك
محمود : تقولى إيه بس ؟ ما أول القصيدة كفر
نعمات : لا كفر ولا حاجة كفى الله الشر ...
محمود : أمال لما ده مش كفر ؟ .. إيه اللى كفر ؟
نعمات : و الله لو حسبتها لتلاقينى عندى حق
سكت محمود ، و قد لان قليلاً ، فضربت على الوتر
نعمات : و بعدين ده مديرك ... لازم تتشرف قدامه ، بدل ما ياخد عننا فكرة إنا احنا بخلا
محمود : بخلا .. ؟!! إحنا بخلا !! أعوذ بالله !!!
أدارت الزوجة وجهها و ضمت شفتيها و حركتهما يميناً و شمالاً بتلك الحركة البلدى التى تنم عن التعجب !
نعمات : آه و الله يفكر فى كده و ممكن الجوازة تبوظ
انتفض محمود و قد عرته رعده
محمود : تبوظ ؟ ... فال الله و لا فالك يا شيخة ... تفى من بقك
نعمات : حاضر حابقى اتف !!... قلت إيه ؟
محمود : قلت إيه فى إيه ؟
نعمات : يوووه ... هو احنا حنعيده تانى ... الديك الرومى يا راجل
يضرب محمود كفيه فى عجب و ألم
محمود: الله يخرب بيت الديك الرومى على الديك الشركسى ...على بيت العزومة على بيت اللى حيتعزموا .. على بيت ...
نعمات : (مقاطعة ) خلاص ... كفاية خراب بقى .... ها قلت إيه ؟
محمود : قلت الله يخرب بيتك إنت كمان
نعمات : ( تضحك) يا راجل فكها ... هو احنا حنجوز البت كل يوم
محمود : طيب يا اختى ... أمرى لله
تتنفس نعمات الصعداء و كأنها نجحت فى الامتحان
نعمات : طيب حتبقى إمتى ؟
محمود : إيه دى ؟
نعمات : العزومة يا راجل ؟
محمود : النهاردة التلات ... نخليها يوم الخميس كويس
نعمات : ( تحسبها ) يعنى بعد بكرة ..... كويس قوى ... ؟ أففففففف
محمود : بتقولى أف ليه يا ولية انت ؟ إيه اللى مش عاجبك ... مش كفاية خربتى بيتى
نعمات : لأ يا أخويا بعد لشر ... بس الجو حر شوية !!
*******
تذكر محمود هذه المحادثة بينه و بين زوجته ، ثم نظر إلى ساعته و كانت قد تجاوزت السابعة و الربع فنوى أن يصعد إلى المدير – نسيبه المقبل – و يشكو إليه الممرض محسن زميله لأنه تجرأ و تأخر ربع ساعة كاملة
و بينما هو يستعد للخروج من المكتب إذ دخل محسن مسرعاً و على وجهه علامات الأسف و الاعتذار
محسن : (يلهث) أنا آسف يا ريس و الله ... بقالى ساعة واقف فى الشارع ... مفيش ولا ميكروباص
محمود : و الله ... إنسى الكلام ده ... أنا طالع للأستاذ يحيى دلوقتى أجيبلك خصم
كان محسن يعلم بأمر زيجة المستقبل هذه ، فخاف أن يطاوعه يحيى و يأمر له بخصم ، لذا فقد تشبث بكمه و هو يرجوه ألا يفعل و هو مصر على ذلك أشد الإصرار ، حتى إذا يأس منه أرسله و قال له
محسن : و الله حرام عليك يا ريس محمود ، الموضوع كله ربع ساعة
محمود : المسألة مسألة مبدأ ، و لو سبتك النهاردة تتأخر ربع ساعة ... بكرة حتيجى متأخر ساعة
محسن : و الله أبداً ... النهاردة الخميس و المواصلات بتبقى زحمة
محمود : ما ليش فيه ... لازم تتعاقب
محسن : يا أستاذ محمود ... عشان خاطرى و الله لأعوضهم لك المرة الجاية
محمود : المرة الجاية ؟... ابقى قابلنى لو كان فيه مرة جاية ... دا أنا مش حاكلمه فى خصم ... دا أنا حاخليه يفصلك .
محسن : يفصلنى عشان اتأخرت عليك ربع ساعة ؟
محمود : ما أنا عارف إنك مش حاتفهم أنا قلت لك دى مسأله مبدأ
علم محسن أنه لا فائدة ، فانتهى عن المحايلة و قال له
محسن : بقولك إيه يا أستاذ محمود ..؟
محمود : عاوز إيه يا متسيب ؟
محسن : طز فيك إنت و المبدأ بتاعك
تفجر الغيظ من محمود و كاد يهجم عليه ليضربه لولا أن فطن فى اللحظة الأخيرة أن محسن أكبر منه فى الحجم ثلاث مرات على الأقل فتراجع و لكنه أرغى و أزبد
محمود : طز فيه أنا ؟... و الله لأوريك ... دا أنا مش حاخليه يفصلك ... دا أنا حاعمل محضر سب و قذف ... ظز فى أنا ؟ ... حاضر
و خرج من المكتب كالصاروخ متجهاً إلى مكتب مدير شئون العاملين – نسيبه المقبل – و دخل عليه المكتب كالصاروخ
محمود : شايف يا أستاذ يحيى الممرض اللى ....
فوجئ بان الحجرة خاليه إلا من عامل النظافة الذى ينظف المكتب ، فسأله محرجاً عن يحيى فعلم منه أنه قد خرج فى مأمورية و لن يعود اليوم
عاد إلى حجرته فوجد محسن ما زال واقفاً
محسن : أستاذ محمود ..
محمود : (بصوت مرتفع ) حظك كويس ... الأستاذ يحيى خرج ... بس انا برضه مش حسيبك
محسن : إسمع بس يا أستاذ محمود
محمود : مش حاسمع منك ولا كلمة ... و لا حاقبل أى اعتذار
محسن : يا أستاذ محمود اعتذار إيه ؟ ... البيت عندك اتكلموا و كانوا عاوزينك
محمود : البيت ... عاوزين إيه ... ما أنا مروح ... و لا هية مصاريف مكالمات على الفاضى و خلاص
كان محسن كباقى الزملاء يعلم مدى ما يتمتع به محمود من بخل شديد
محسن : يظهر إن كان فى حاجة مهمة ... المدام قالت لى أخليك تكلمها ضرورى
ظهر الاهتمام على وجه محمود و اتجه إلى الهاتف على المكتب و خرج محسن بتهذيب ليترك له الحرية
ترررررررررررررررن تررررررررررررررررن
نعمات : ألو
محمود : أيوه يا نعمات ... فيه إيه ؟
نعمات : إنت كويس يا أخويا ؟
يشعر محمود بالقلق من لهجة زوجته
محمود : فى إيه يا نعمات ؟ اتكلمى
نعمات : فى حاجة كده عاوزة أقولك عليها بس و النبى متزعل نفسك (1)
يتزايد القلق فى صدر محمود فيصرخ فيها
محمود : متتكلمى يا نعمات ... فى إيه ؟ أمى جرالها حاجة ؟
نعمات : لأ يا اخويا بعد الشر ... دى حاجة بسيطة
محمود : و لما هى بسيطة ما استنتيش لحد أما آجى ليه ؟
نعمات : ما انا قلت أقولك و انت فى الشغل عشان على ما تيجى تكون هديت
محمود : ( يصرخ بصوت عال ) متتكلمى يا ولية
نعمات : حا تكلم أهه ... أصل
ثم تسكت مما يكاد يصيب محمود بنزيف فى المخ
محمود : يا ولية اتكلمى لآجى أطين عيشتك
نعمات : أصل ... أصل سميرة غلطت غلطة كبيرة قوى
أحس محمود أن زلزالاً قد أصابه ... ما معنى هذا الكلام .... بنته قد رباها أحسن تربية
خرج منه صوته بالكاد و هو يسقط على المقعد
محمود : غلطت إزاى ؟
نعمات : حاقولك يا أخويا ... إنت سيبت لى الفلوس بالليل قلت أقوم من بدرى أشترى الحاجة من السوق
محمود : يا ولية انت حتحكى لى حدوتة ؟
نعمات : صبرك بالله يا أخويا .. انا جيالك أهه .... أول ما نزلت عديت على الفرارجى و نقيت ديك رومى حلو كده و قلت له يدبحه و ينضفه و يبعته مع الواد الصبى بتاعه على الشقة يديه لسميرة عشان تغسله و تنضفه كويس على ما آجى من السوق
محمود : يا ولية اخلصى ... يا ولية حاطلقك !!
نعمات : راح الواد قعد يخبط لحد ما صحاها من النوم قامت واخده منه الديك و حطته على السفرة و مقفليتش الباب وراه كويس لما نزل و دخلت نامت تانى
محمود : الله ينتقم منك .. يا ولية هاتى المفيد
نعمات : ما أنا باقولك أهو يا أخويا .... قامت القطة دخلت من الباب و راحت واخداه و خرجت بيه و نزلت السلم و قعدت تاكل فيه هى وولادها تحت بير السلم
محمود : يا نهار أبوكو اسود ... القطة كلت الديك
طبعاً اطمأن محمود إلى أن ما جال بخاطره نحو ابنته كان سراباً ، و لكن صدمته فى الديك كانت كاسحة ، فكاد يغشى عليه من الكمد و لم يستطع أن يتكلم
نعمات : محمود .... و النبى ما تزعل نفسك يا أخويا
لا يرد محمود ، فقد كانت الصدمة أكبر و أفدح و أعظم من أن يتحملها
أحس أن الدنيا تسود من حوله ، و بعد فترة من الصمت الرهيب و بعد أن كادت نعمات تموت رعباً هى الأخرى ، تكلم
محمود : كان بكام الديك ؟
نعمات : ( بصوت مبحوح ) بمية و ستين جنيه بس
محمود : بس ..؟ بتقولى بس يا وليه ؟
نعمات : فداك يا راجل ... ربنا يخليك لينا أهم حاجة
محمود : لأ مش دى أهم حاجة ... أهم حاجة إن أنا حاجى أخرب بيوتكم ... ميه و ستين جنيه راحو فى الأرض يا نعمات ؟ ... ربنا ينتقم منك يا نعمات ... مش انت اللى طلعتيها فى دماغى ... مش انت السبب ... ربنا ينتقم منك يا نعمات كمان مرة
نعمات : إمسك نفسك يا اخويا شوية .... الحمد لله على قد كده .. أهم حاجة حانعمل إيه مع الناس اللى جايين بالليل
انتفض محمود فزعاً و قد تذكر
محمود : يا نهار اسود و منيل بستين نيلة .... دا الناس جايين بالليل ... حاعمل إيه دلقوتى ؟... خربتى بيتى أول و آخر يا نعمات
نعمات : يا محمود اهدا ... عاوزين نفكر حانعمل إيه
محمود : حانعمل إيه ؟ أهى المصيبة حلت و اللى كان كان
نعمات : طيب فكر معايا فى حل .. حانقول إيه للناس ؟
محمود : أنا مافيش دماغ أفكر ... و كمان الراجل مشى و مش جى المستشفى تانى
نعمات : يا دى النيلة و بعدين ... آه طيب ما تكلمه على المحمول
محمود : ( يصرخ فيها ) آآآآه ما هى ناقصة مصاريف ... شوفى الدقيقة بكام .. عشان تكمل ... و حاقوله إيه بقى عن شاء الله ؟
نعمات : قول له .... قول له إن مراتى عيانة قوى
محمود : إلهى ربنا يسمع منك يا شيخة ... حاقوله إن مراتى ماتت ... بس مش حاينفع ما هو حيعرف ... حقوله ربنا هدها ... حاقول له جالها شلل
نعمات : ماشى يا سيدى .. قول له أى حاجة ...بس اتصرف
أغلق الهاتف فى وجهها ، و قام مستنداً على المكتب و كأنه قد كبر سنه عشرين سنة مرة واحدة
دخل محسن و رآه فى تلك الحال فشعر بالقلق عليه
محسن : فيه يا ريس محمود .. مالك كفى الله الشر
نظر له محمود نظرة خاوية يائسة بائسة ، كان ضياع المال بالنسبة له كموت واحد من أبنائه أو يزيد ، كان يحب المال حباً جماً ، بل كان يعبد المال
لم يكن فقيراً أو محتاجاً فقد وفر خلال سني عمره ما يكفيه حتى يموت ، و لكنه كانت متعته الكبرى هى وضع القرش على القرش ، و لما يكتمل الجنيه و يضم إلى إخوته ، فإن هذا يكون بمثابة عيد عنده .
كان عبداً للمال و العياذ بالله
يقول النبى الكريم صلى الله عليه و سلم :" تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم ، تعس عبد الخميصة ، تعس عبد الخميلة ، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش"(2)
و هذا الحديث يصف حال هذا الرجل البخيل وصفاً دقيقاً و فى نهايته دعوة عليه بأنه إذا دخلت فى قدمه شوكة فإنها لا تخرج و لا يستطيع أن يخرجها حتى بالمنقاش ( الملقاط)
و هذه النوعية من البشر موجودة حولنا و بكثرة ، و هم كالمرضى ، و لكنه مرض عضال لا شفاء من
سقمه .. و كذا كل أمراض القلوب .. نسأل الله السلامة
كرر عليه محسن السؤال فنظر إليه محمود تلك النظرة مرة أخرى
ثم و كأنه أفاق لما رأى الهاتف النقال الخاص بمحسن فقال له
محمود : معلش يا محسن ... ممكن اتكلم فى المحمول بتاعك ... مكاملة صغيرة .. مش حطول
كان محسن شهماً لذا فقد أسرع بإعطائه إيه ناسياً ما حدث منه منذ دقائق
أمسك المحمول و سأل محسن
محمود : تعرف نمرة الأستاذ يحيى
محسن : ( بحذر) ليه ؟... إنت لسة عاوز تشتكينى برضه؟
محمود : ( بابتسامة مداهنة ) أنا أشتكيك برضه يا محسن ... دا انت أخويا
امسك محسن الهاتف و استحضر نمرة يحيى و طلبها له و أعطاه الهاتف
ترررررررررررررررن .... تررررررررررررررررررن
يحيى : ألو
محمود : أيوه يا يحيى بيه
يحيى : مين معايا ؟
محمود : أنا محمود الوكيل يا يحيى بيه
يحيى : أيوه يا محمود ... أنا حاجى انا و الولاد فى المعاد ... مش محتاج تفكرنى يا راجل
محمود : معلش يا محمود بيه أنا آسف و الله
يحيى : خير يا محمود ؟
محمود : اصل المدام تعبت شوية
يحيى : ( منزعجاً ) يا ساتر (3) يا رب
محمود : متقلقش يا أستاذ يحيى بسيطة إن شاء الله
يحيى : خير طمنى
محمود : جالها جلطة !!
يحيى : أعوذ بالله
محمود : و شلل نصفى !!
يحيى : لا إله إلا الله .... أنا حاجيلك على طول ... لازم أكون جنبك فى الموقف ده
محمود : ( منزعجاً ) لا لا لا ... لا يا يحي بيه إوعى تيجى ... دى حاجة بسيطة إن شاء الله
يحيى : متقولش كده يا محمود .. إحنا بقينا أهل دلوقتى
محمود : لأ و الله ما تتعب نفسك ... الدكتور طمنا ... و هى عند والدتها دلوقتى
يحيى : طيب يا محمود معلش ... ربنا حيسترها إن شاء الله ... لو عزت أى حاجة ابقى طمنى ... و أنا حابقى اتصل بيك أطن علي المدام ... مع السلامة
محمود : مع السلام ... مع السلامة
أغلق الخط و زفر فى قوة و كأن جبلاً أنزل من على كتفه
ناول الهاتف لمحسن الذى سمع المكالمة و تأثر بشده و عرض عليه المساعد و لكنه تركه بغير أن يرد عليه و خرج من المستشفى
كانت الساعة حوالى الثامنة ، و كان عادة ما ينتظر الأتوبيس الذى يمر فى الثامنة و النصف ليوفر ربع جنيه كاملاً !! ، و لكنه هذه المرة كان يعلم أن قدميه لم تكن لتحملاه فذهب إلى موقف الميكروباصات
-----
سيد : مؤسسة عبود ... مؤسسة عبود ....مؤسسة عبود
يصعد ثلاثة رجال و فتاة
محمود : ممرض فى مستشفى التأمين بشبرا
اسماعيل : رجل فى الأربعين ... ملتح و مقصر و يبدو عليه سيماء الصلاح
عادل : شاب هادئ تبدو عليه الطيبة
منى ... طالبة ثانوى تلبس الخمار و القفازين
-----
يركب السيارة و يجلس خلف السائق و هو فى دنيا أخرى غير دنيا الناس
دقائق و صعد السائق الأسطى عبده
عبده : الأجرة جنيه و نص يا حضرات من قبل ما نتحرك
تتعالى همهمات اعتراض من الركاب
عبده : اللى مش عاجبه ينزل .. إحنا لسة فى الموقف
محمود : ليه يا اسطى ؟ ... إحنا كل يوم بنركب بجنيه و ربع
عبده : يا بيه البنزين غلى و الكارتة غليت
محمود : بنزين إيه اللى غلى يا اسطى هو إحنا مش عايشن فى البلد و لا إيه؟
-----
كاد محمود أن ينزل بالفعل و لكنه تذكر موعد عمله فى المستشفى الميرى فجلس و هو يغلى من الغيظ
محمود : ( محدثاً نفسه ) يلا عشان تكمل
من الذى قال أن المصائب لا تأتى فرادى ، اظن أنه شخص عبقرى
توالى الركاب و بدأت السيارة فى المسير ، و هو فى واد آخر كما قلنا
كان يحسب كل الخسائر
محمود : ( محدثاً نفسه ) ديك رومى بمية و ستين جنيه ، و خمسين قرش فرق المواصلات ، يبقوا مية و ستين و نصف ... و الله يا نعمات انت و بنتك لطلعهم على عنيكم ... حاخصمهم من أكلكم
ثم انتبه إلى أمر آخر
محمود : ( محدثاً نفسه ) يا دى النيلة ... يا دى النيلة ... دا أنا نسيت إن لسة فيه عزومة لازم أعزم الراجل تانى ... دى كده دخلت ييجى فى تلتمية و خمسين جنيه .... الله يبتليك بتلتمية و خمسين عفريت يلبسوك يا نعمات يا وش الخراب !!!
كان موشكاً على الجنون و كاد الدخان يتصاعد من عقله لو كان لهذا أن يحدث .... كل هذا المبلغ من المال يخسره فى يوم واحد ... إن الموت أهون من هذا و أخف
و كأن الله قد استجاب له
فجأة أفاق من أفكاره على صراخ الركاب و هم يحاولون أن ينبهوا السائق الذى يسير بهم نحو الموت
و لما فهم الموقف بدأ يصرخ معهم ...
---------
انتهت حياة هذا الرجل البخيل ... لا ادرى كيف سيحاسبه الله تعالى ، و لكن الأمر الذى لا شك فيه أن هذه النوعية من البشر بغيضة لأبعد مدى
و هى مذمومة ، و فعالها مذمومة ، و شحها مذموم
قال تعالى : ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك و لا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً
و قال العلماء : و كلا طرفى الأمور ذميم
و الكلام لا يحتاج إلى شرح أو تعليق
يكفينا أن نختم هذه القصة بكلام نبينا صلى الله عليه و سلم الذى لا كلام بعد كلامه
السخي قريب من الله قريب من الناس قريب من الجنة بعيد من النار والبخيل بعيد من الله بعيد من الناس بعيد من الجنة قريب من النار والجاهل سخي أحب إلى الله من عابد بخيل و أكبر الداء البخل(4)



------------ --------- --------- --------- --------- --
الهوامش
(1)الحلف بغير الله تعالى شرك
(2) حديث صحيح
(3) من الخطأ أن نقول يا ساتر لأنه ليس من أسماء الله الحسنى بل نقول : يا ستير
(4) ( الطبرى – صحيح )

----
إلى اللقاء مع راكب آخر إن شاء الله تعالى

يتبع بإذن الله

No comments:

Engageya