اخبار الحوادث

Saturday, June 28, 2008

فوبيا الجزء الثالث الخوف

فوبيـــا
دراسة د. نبيل فاروق

الحلقة الثالثة
أنياب الخوف


* (الفوبيا) هذه المرة من نوع متميِّز، ومختلف، وخاص..
خاص جداً..
(فوبيا) لها أنياب.. ومخالف..
(فوبيا) الحيوانات..
وربما يتبادر إلى ذهنك، مع الوهلة الأولى، أن هذا النوع من (الفوبيا)، أو الخوف المرضى، من الحيوانات، يقتصر على الحيوانات المفترسة وحدها دون سواها، حيث ترتبط فى أذهان الناس دوماً بالوحشية، والعنف، والدم، والألم، والموت أيضاً..
ولكن الحقيقة تختلف كثيراً..
فالمصابون بهذا النوع من (الفوبيا) يصابون بالخوف المرضى، والفزع، والرعب، والهلع، وكل المشاعر المشابهة الأخرى، من كل أنواع الحيوانات، المفترسة، والأليفة، وحتى الوديعة منها..
ومن المؤكَّد أنك قد التقيت فى حياتك حتماً بأحد المصابين بهذه الحالة العجيبة، وأنك قد رأيت من يصاب برعب بلا حدود، عند رؤية قط، أو كلب منزلى، أو أرنب، أو حتى حمار..
وربما ترتبط بعض الحالات بذكرى مؤلمة، فى فترات الطفولة أو الصبا، كأن يداعب طفلاً هرته مثلاً، فتخدشه بعنف، مما يولِّد لديه خوفاً مرضياً من القطط طوال العمر، أو حتى يشاهد كلباً يعقر شخصاً آخر، ويرى الآلام الرهيبة التى يعانيها هذا الآخر، فيخشى الكلاب حتى آخر لحظة فى عمره..
ولكن هناك حالات أخرى، لم يجد الأطباء النفسيون فى تاريخها كله، وحتى تحت تأثير التنويم المغنطيسى، أى موقف أو حادث، يمكن أن يكون السبب فى إصابتها بهذا الخوف المرضى من الحيوانات..
كل الحيوانات..
وحالات الخوف من الحيوانات تختلف من مريض إلى آخر، ككل أنواع (الفوبيا)، فهناك مريض يصيبه الفزع، عند رؤية حيوان يجرى هنا أو هناك، أياً كانت نوعيته، أو كان حجمه..
وفى حالات أخرى، لا يرتبط الخوف المرضى إلا بالحيوانات الحية، ويتلاشى تماماً أمام أى حيوان ميت، باعتبار أن موته يعنى انتهاء شروره، أو ما يمكن أن يسببه من أذى للآخرين..
وهناك حالة مسجلة عن مريض، لم يكن باستطاعته أبداً التطلَّع إلى عينى أى حيوان، ويتصوَّر دوماً أنه إذا ما التقت عيناه بحيوان ما، فإن هذا الحيوان سيتحداه، ويستفزه، وسينتهز أية فرصة سانحة للانقضاض عليه، وافتراسه بلا رحمة..
وهناك حالة أخرى لمريضة، كان يمكنها أن تتعامل مع الحيوانات بكل أنواعها، لو أنها حبيسة الأقفاص، أو بعيدة عن متناول يدها، أما لو لمسها أى حيوان، فهى تصرخ، وتولول، وتبكى، وتنهار، وتقضى ساعات وساعات فى غسل ذلك الموضع، الذى لامسه الحيوان، حتى أنها ذات مرة أزالت جلد ساعدها وألهبته، من فرط محاولتها تنظيفه..
والخوف المرضى من الحيوانات لا يرتبط بقوة المرء أو شجاعته العامة، فى مواجهة أية مواقف أخرى، بل هو نوع منفصل تماماً من المخاوف، ينمو فى ظروف خاصة، تختلف دوماً عن الظروف الطبيعية..
وأكبر مثال لهذا هو حالة (دى لوكا)..
و(دى لوكا) هذا كان رجلاً ضخم الجثة، عريض المنكبين، طويل القامة، له ملامح غليظة صارمة، وأطراف كبيرة على نحو مفرط، بحيث يبدو فى معطفه الداكن أشبه بصورة حية لمسخ (فرانكنشتاين) الشهير..
أما وظيفته، فكانت القتل!!..
نعم.. كان (دى لوكا) قاتلاً محترفاً، يعمل لحساب (المافيا) الإيطالية فى الثلاثينات، ويلازم زعماءها ملازمة الظل، وينفذ أوامرهم بلا مناقشة، وبلا تردُّد أيضاً، فيكفى أن يشير أحدهم إلى شخص ما، حتى يعتبر (دى لوكا) هذا أمراً بالقتل، لابد وأن يعمل على تنفيذه بأى ثمن..
وعلى الرغم من أن ذكاء (دى لوكا) كان محدوداً للغاية، فى النواحى الحسابية والاجتماعية، والعلمية بالطبع، إلا أنه كان يمتلك ذكاءً وحشياً عجيباً، فيما يختص بعمليات القتل، إذ كان يدبرها، ويخطِّط لها، وينفذها فى براعة مدهشة، حتى أن كل وسيلة لحماية الضحية، لم تكن لتحول بينه وبينها قط..
ومن الناحية العملية، كان (دى لوكا) قاتلاً بلا قلب أو مشاعر، يمكنه أن يكمل مذبحة بشعة، تسيل لها دماء الأطفال والنساء والشيوخ قبل الرجال، دون أن يطرف له جفن، أو تهتز فى جسده شعرة..
باختصار، كان كتلة من الغلظة، والقسوة، والوحشية، والقوة إلا لو وقع بصره على ثعبان!..
أى ثعبان!..
فما أن يرى (دى لوكا) ثعباناً يزحف أمامه، حتى ولو داخل قفص من زجاج سميكاً، ومضاد للرصاص، حتى تتسع عيناه عن آخرهما، ويرتجف من قمة رأسه حتى أخمص قدميه، ويغرقه العرق وكأنما خرج من بحر، وتتخشَّب أطرافه كالموتى، ويخفق قلبه بمنتهى العنف، حتى يكاد يثب من قفصه الصدرى بكل قوته..
ولقد تم كشف نقطة ضعف (دى لوكا) هذه بالمصادفة البحتة، عندما خرج لتنفيذ واحدة من عمليات القتل الاحترافية، ثم فوجئ بأن الهدف يهوى تربية بعض الثعابين، فى أقفاص زجاجية، فى حجرة مكتبه..
يومها فشل (دى لوكا) تماماً من المضى ولو خطوة واحدة، داخل حجرة المكتب، وتراجع بكل رعب الدنيا، بل وانطلق يعدو عبر شوارع (شيكاغو)، حتى بلغ منزله، فوثب تحت أغطية فراشه، وراح يرتجف حتى صباح اليوم التالى، وذهنه عاجز عن محو صورة الثعابين، وهى تزحف فى تعومة داخل أقفاصها الكبيرة..
وانتبه الضحية إلى ما حدث..
انتبه إلى أنه الهدف التالى للمحترف (دى لوكا)، وإلى أن شيطان (المافيا)، كما كانوا يطلقون عليه، مصاب بهلع مرضى من الثعابين؛ بكل أنواعها..
وفى اليوم التالى مباشرة، تسلَّل بعضهم إلى حجرة (دى لوكا)، وأودعوا فى فراشه وعاءً يحوى عدداً من الأفاعى الصغيرة..
وعاد (دى لوكا) إلى منزله، وأوى إلى فراشه، ورقد بين الثعابين، ثم انتبه إلى وجودها، و…
وفى الصباح التالى، عثروا على قاتل (المافيا) القاسى المحترف، ميتاً فى فراشه، وعلى وجهه نظرة رعب هائل، قضى عليه تماماً، على الرغم من أن الثعابين كلها كانت من النوع البسيط غير السام..
(دى لوكا) المرعب لم يمت بسم الثعابين إذن، وإنما بسبب خوفه المرضى الرهيب منها فحسب!!..
وهناك حالة أخرى لامرأة وحيدة، تعيش فى مزرعة صغيرة، فى جنوب (فرنسا)، مصابة بهلع مرضى من الفئران، حتى أنها كانت تنفق نصف دخلها السنوى على الشركات المتخصصة، فى إبادتهم وطردهم، ومنعهم من التسلَّل إلى منزلها الصغير..
وعلى الرغم من أن المنزل كان يخلو من أجهزة الإنذار، ونظم الأمن والتأمين المعتادة، فإنه كان يحوى عشرات من أجهزة الموجات فوق الصوتية، التى تدَّعى بعض الشركات قدرتها على طرد الفئران وأبعادها..
فى كل حجرة، وضعت المرأة جهازين على الأقل من هذه الأجهزة، حتى تشعر بالأمان، وتبعد عنها الفئران تماماً..
ولكن من عجائب القدر، أن هناك مثل قديم يقول : "إن من يخشى العفريت يراه"، ولقد تحقَّق هذا المثل بحذافيره، فى حالة هذه المرأة بالذات..
فذات يوم، أصابتها أزمة قلبية مفاجئة، أعقبتها حالة شلل رباعى، كما أكَّد تقرير الطب الشرعى فيما بعد، ومع سقوطها أرضاً، وعجزها عن الاتصال بأى شخص لمعاونتها، نفذ وقود المولدات، التى تمد منزلها بالطاقة، فحل الظلام، وتوقَّفت أجهزة طرد الفئران عن العمل، فانطلقت بالعشرات نحو المزرعة، وكأنما تنتقم من فترة الإبعاد الطويلة، وهاجمت العجوز العاجزة فى حجرة نومها،والتهمتها حية، وصراخها يملأ الجو، دون أن يسمعها أحد!!.. الصورة تبدو مفزعة للغاية، وستزعج خيالك طويلاً، إلا أنها لن تصيبك بالخوف المرضى من الفئران..
أو ربما تفعل!!..
ولكنها فى كل الأحوال واقعة حقيقية، على الرغم من بشاعتها..
واقعة ارتبطت بالخوف المرضى من أنواع بعينها من الحيوانات، مثل الخوف من أسماك القرش، أو الأخطبوط، أو السحالى، أو الثعابين..
والخوف من الحيوانات شديد وواسع الانتشار، وتصاب به النساء بأكثر مما يصاب به الرجال، وهو يشترك فى مواصفاته وطبيعته مع نوع آخر من (الفوبيا) المرضية..
نوع أقل شيوعاً، ولكنه أكثر إثارة للاهتمام والحيرة.
والدهشة أيضاً..
الدهشة الكبيرة.

No comments:

Engageya