نوة الشتاء الأخيرة وكذبة الربيع ...قصة قصيرة
يربط بينى وبين شوارع مدينة بحرى ورصفانها شجن قديم , ويجمعنى بيوت تلك المدينة وشوارعها حميمية قوية وتبدو شرفاتها ونوافذها عندما تنظر إليها كأنها أعين كبيرة أرقها طول السهر وأنهكها النحيب ، فتعرفني جيدا جدرانها القديمة التى شمخت أمام غزوات العصور ومعارك الأزمان وتقلبات الدهور وغدر البحر فى ليالى الشتاء الطويلة الحزينة ، أعود إليها بعد سنوات طوال فأجدها لم يترك كل ذلك بها إلا الخدوش والنقوش وتآكل الطلاء من عليها .
الساعة الآن تخطت الحادية عشر والنصف ليلا ً , المحلات تتأهب للإغلاق والمقاهي العتيقة تستعد لهجرة الزبائن منها ومن تبقى منهم فيها تحت ظلال الإضاءة الخافتة كأنهم أشباح وجوههم إلى الأرض أو إلى السماء فى شرود لا تراه إلا على من يحمل هما ً أو كارثة ، الليل مخيم كالحزن المقيم والطرقات تكاد تخلو من الناس مع اقتراب منتصف الليل لتبتلعهم البيوت ثم تعود وتلقيهم من جوفها مع الساعات الأولى من النهار ، وجوه من تبقى من المارة كئيبة منكسرة منهكة مؤرقة ، كم مر من الساعات وأنا أسير على قدمي ..؟ لا أتذكر ولا أريد .
شعرت ببعض القشعريرة والبرودة تسريان فى جسدى عندما انعطفت فى اتجاه هذا الشارع المؤدى إلى طريق البحر ، تلك التى أشعلت فى قلبى بعض الذكريات القديمة ، فثمة مأذنة طويلة لمسجد عتيق وطفح لماسورة صرف لأحد البيوت لا تتوقف عن الفيضان حتى فى هذا الوقت المتأخر ، لا أعلم لماذا ذكرنى ذلك بأيام عيد الأضحى فيما مضى وأصوات التكبير التى كانت لا تنقطع من مآذن المنطقة والتى كانت تشق الأفق وكنت أظنها فى صباي أنها تصل إلى الجانب الآخر من الشاطىء فتسمعها كل أووربا ، كان الكل مستيقظ الكل سعيد الوجوه مبتسمة مهنئة فى لهفة انتظار الصباح وصلاة العيد ، ملابس العيد الجديدة , مراجيح سيدى أبو العباس , رائحة الذبح وفراء الأضحية ولون الدماء يغطى الأرصفة ، نداء الجزارين نسمات الهواء التى تأتى من ناحية البحر مع بسمات الفجر الجديد التى كنا نستقبلها بكل فرح الأطفال عندما كنا نصلى ونتجمع عند رمال الشاطىء بجوار المراجيح ، كل ذلك أكاد أشعر به بل إننى أشتم رائحة الدماء وأسمع بعضا ً من أصوات الجزارين وهم ينادون على أصحاب الأضاحي .
يا إلهي ..أين ذهب كل ذلك الدفء ؟ ، أحاول أن أتلمسه بضم معطفى حول جسدى وفرك يدى بقوة فتأتيني الإجابة قشعريرة تسرى فى الأوصال ورياح تزداد شدة كلما اقتربت نحو اتجاه الشاطئ الخالي ، إنه موعد النوة الأخيرة لفصل الشتاء يسمونها بنوة العوة أو نوة العجوزة والتي يعلن فيها الشتاء انسحابه وانهزامه أمام شباب الربيع وفتوته فيطلق صيحة المهزوم الأخيرة أمام شموخ الإسكندرية التي لم تهزمها أبدا ًنوة أو كسرها يوما ًحزن ، يقولون أيضا أن الشتاء يعوى صيحته الأخيرة ثم يهوى منسحبا ً فى قاع البحر لتشرق شمس الربيع من جديد ويعم الدفء مرة أخرى أرجاء المدينة .
وصلت بصعوبة إلى رصيف الشاطئ الخالي ثم ما لبثت قدماي أن ساقتني إلى هذا المكان وتلك البقعة التى ما كنت أفكر ثانية فى الوصول إليها أبدا ، الآن فهمت لماذا كانت تدفعني الرياح بكل إصرار وعناد للتراجع كلما مضيت قدما ًفى طريقي وكنت أقاومها بكل غباء وإصرار فى المقابل ، الشاطئ المهجور مخيفٌ بحق والأمواج كئيبة اللون والمنظر لا تريد أن تهدئ ، تضطرب بشدة ولا تفتأ تضرب رماله بكل قوة وإصرار تماما ً كضربات قلبى المتصارعة القلقة ، صوت الرياح يأتيني من بعيد أسمعه فى أعماقي و يكاد يفتك بعظامي .
العاصفة شديدة البأس تلك الليلة والرياح عتية قوية أراها تلهو برمال الشاطئ المهزوم أمامها بكل سادية كفريسة مقهورة تقلب حباتها يمينا ويسارا وتبعثرها ، تماما كما تفعل بى الذكريات ما تكاد تهدئ ، تلهو بى تعود بى إلى سراديب ذاكرة كثيرا ً ما كنت أعلن أمام نفسى أن قد انتصرت عليها وأغرقتها فى أعماق بحار النسيان .
فأمام هذه البقعة من الشاطئ منذ عشر سنوات أشرق ربيع قلبى بالحب لأول مرة وفوق تلك الصخرة الصماء نبتت وروده ، ولأول مرة تنمو زهوره الملونة المبتسمة على تربته الخصبة ، هنا عاشت وتسلقت زهور اللبلاب وتشابكت أغصانها بين قلبى وقلبها قبل أن يصيبها الجفاف والذبول إلى الأبد , هنا التقينا وهنا افترقنا ، هنا كان مولد الربيع بمولد حبها بقلبي وهنا أيضا مات ليحل شتاء بارد مقيم .
حسنى صالح فى 23 مارس 2012
كل مواضيعى منقولة ما لم اذكر عكس ذلك
No comments:
Post a Comment