أنهت أسرة أحمد وجبة الغداء، بعد ذلك تعاون الجميع على تنظيف الطاولة والمطبخ.
ثم انتقلوا إلى غرفة الجلوس ينتظرون بشوق مناقشة موضوع الإعلام. وكل منهم لديه في جعبته الكثير من الاستفسارات والاستغراب والانتقادات.
افتتحت الأم جلسة النقاش، فبسملت وحمدت الله ثم بدأت تمهد للموضوع والجميع ينظر إليها باهتمام.
فتحدثت عن أهمية الإعلام في حياة الأمة والتناقض الكبير الذي يعيشه. ودوره الجوهري في بناء شخصية الفرد وقناعاته ومفاهيمه.
وبالتالي أثره على تفاصيل حياته ثم مررت الكلمة للأب لكي يفصل قليلا في هذه المسألة مستعملا أسلوبه المعتاد مع أولاده، وهو أسلوب "إياك أعني واسمعي يا جارة". فهو يعرف مفتاح كل واحد منهم ويود أن ينبههم لسموم الإعلام وكيف يتعاملون معها.
وكان يعلم أن أبناءه بما فيهم عائشة الصغيرة ذات التسع سنوات، يتابعون بنظرة متفحصة ما يجري في وسائل الإعلام.
كيف لا وقد تربوا في أحضان الفكر العميق والثقافة الواسعة؟ وتعلموا مسؤولية إعمال عقولهم منذ نعومة أظافرهم لكي يواجهوا بأمان فتن الشهوات والشبهات وابتلاءات الحياة.
واعتمد الوالدان في تربيتهم على قيم الإسلام وترسيخ رقابة الله عز وجل، وأن لا عز إلا به وأن لا خوف إلا منه. لكي يضمنا بذلك حماية أولادهم من الهلاك في غمرة البحر اللجي المتلاطم الأمواج، والريح الشديدة التي تعصف بالقشور، وتذر الإيمان أقوى وأشد قدرة على حفظ صاحبه.
بعد ذلك فتح أحمد باب النقاش وبدأ باليمين هذه المرة بعمر.
فقال مقطبا جبينه:
- صدقت يا أبي في كل كلمة، لكني أفاجأ يوما بعد يوم بالكم الهائل من رسائل الإعلام الهدامة، التي ما فتئت تعرض عبر الفضائيات وشبكة العنكبوت وعبر الإعلانات في التلفاز وفي المجلات وفي الشارع.
فينقبض قلبي وأتساءل:
ما الحل؟ ما السبيل لإنقاذ قيم الحق والفضيلة من عولمة الرذيلة التي تغزونا كل يوم وتتعدد أشكالها وتنفث سمومها في عقول الناس وقلوبهم؟
فسأله أحمد: كيف يا بني؟ أعطنا أمثلة من تلك الرسائل ليتوضح الأمر لنا أكثر، فقال عمر وهو ينظر للجميع:
- حسنا يا أبي. أخطر تلك الأساليب امتهان المرأة واحتقارها واستغلال جسمها لتمرير رسائل تهدم الأخلاق، بينما كرمها الإسلام ورفع قدرها عن أن تكون سلعة رخيصة. حتى أصبحوا يظنون أنهم لن يبيعوا عود ثقاب إلا بوضع صورة امرأة على العلبة.
وبعضها إعلانات تستخف بعقل المتلقي، مثل مساحيق الغسيل الخارقة التي تراها الدهون فتذوب مستسلمة لقدرها فهي لا تعرف المستحيل. تخضع الأوساخ أمامها للأمر الواقع. فتتشتت وتخلي الديار طوعا أو كرها، خصوصا مع المادة الفعالة التي يستحيل تماما وبتاتا أن تصمد أمامها مهما كانت متمكنة من أنسجة الملابس.
والشكولاتة السحرية التي تنقلك إلى الجزر الساحرة مع فتاة جميلة لتعيش أحلى الأحلام وتشعرك بسعادة لا متناهية...
و"الشيبس" الذي يقف بالمرصاد للجوع وقد انتفخت أوداجه ليرديه قتيلا. ثم يرقص فرحا بالنصر عليه، ويخبرك بأنه ترك لك الطعم المثالي الذي يظل في الفم إلى ما شاء صاحب الشركة.
أما الشامبو القاضي على العنوسة،
وقاهر القشرة،
وضامن اللمعان والتألق في سماء النجوم.
فيجعل الشعر سببا لاهتمام الآخرين وجلب العرسان والثقة في النفس....
ابتسم أحمد فخورا بفهم ابنه العميق وبادره قائلا:
- معك حق يا بني تمتهن المرأة كثيرا في تلك الإعلانات والمجلات ومسابقات ملكات الجمال، أسأل الله عز وجل أن يأتي يوم لا تقبل فيه امرأة في بلاد المسلمين أن تسقط في حبائل المتاجرين بكرامتها وحيائها.
وقد أصبت كبد الحقيقة يا ابني الحبيب فأصحاب الإعلانات لا يهمهم إلا تشجيع المادية والاستهلاك، والهدف الأول والأخير هو كسب المال، بغض النظر عن جودة السلعة أو ضررها. ولو على حساب تشويه المفاهيم وتقزيم الأمنيات والإغراق في إشباع الشهوات دون اتزان. والمصيبة أن الكثيرين يتصرفون تجاهه بعقول قد غابت عنها البوصلة.
ثم التفت إلى يوسف وطلب منه أمثلة عما يرى.
فقال: ماذا أقول يا أبي؟ الشاشة تزخر ب" الفن " الرخيص والدعاية لفصل الدين عن أمور الحياة. وخالج الأسى فؤادي حين تمعنت في دور كثير من الأفلام والمسلسلات، فوجدت التي تقزم الدين وتحصره في جماعة متطرفة.
وتغير المفاهيم على أساس أن هذا هو الدين السليم. وتصور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بطريقة الإسلام منها براء. فتدعو الناس ألا يتدخلوا في حريات الآخرين. ولا يقدموا لهم النصح وان كل واحد له رب يحاسبه.
وكأن الحرية هي أن يفسد المرء ويفسد من حوله، وأن تخرج الفتاة بلباس خادش للحياء، ويتمايل الشباب بأغاني الحب والهيام والاهتمامات التافهة. لنظل دائما في حفرة الجهل والهوان والضياع.
وأعجب للبرامج التي تدس السم في العسل، وتطالب بتقنين الإعلام، وهم أنفسهم أداة هادمة فيه، وصدق الله عز وجل حين قال في سورة الكهف:
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104)
لاحظ أحمد انفعال يوسف وغيرته لما يجري لإعلام يفترض فيه أن يبني ولا يهدم، فقاطعه بلطف قائلا:
- يا بني ستنتصر الفضيلة لا محالة إن وجدت لها رجالا مثلك يخدمونها ويعملون من أجل عولمتها فرسالة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم جاءت رحمة للعالمين. وما تعيشه المجتمعات التي عولمت وشجعت الرذيلة من تفكك وانحلال أسري وانتحار بسبب الشذوذ والانحراف عن الفطرة السليمة يجعلها في حاجة لمن ينقذها بمنهج الحكيم العليم رب العالمين الذي خلق الإنسان ويعلم الأصلح له. ولكنه تدافع الحق والباطل والله مدبر أمر خلقه. لكن من واجبنا بذل الأسباب المطلوبة لانتشال الناس من تشويه الفكر وتفاهة الاهتمام واتخاذ قدوات مصطنعة لا تمت لقيمه بصلة.
هنا استطردت نور مراقبة ردات فعل فلذات كبدها:
- معك حق يا أبا عمر، يا أبنائي العبرة بالعمل للخروج من هذا المأزق وتوفير مناخ أفضل للأجيال القادمة وهذه حرب شعواء بين الخير والشر في أرض الله. وواجبنا نشر الخير والسعي لتقزيم الشر ما استطعنا لذلك سبيلا.
فقالت مريم: نعم يا أمي صدقت، أنا لا ألوم يوسف على حرقته، ولا عمر على غيرته، لكن لابد أن نوقد شمعة بدل أن نلعن الظلام.
فأردفت فاطمة:
- نعم يا مريم. فلا يسعنا أن نقف مكتوفي الأيدي. لأجلنا أولا ثم لأجل أولادنا والأجيال القادمة. فنحن الرابحون إن أمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر بشتى السبل المتاحة وكما أمر الله عز وجل كل انطلاقا من دوره وموقعه.
ويقينا سيلبي أبناؤنا بإذن الله النداء فيعم الخير الأجواء ونتنفس عبير حلمنا وهو يجوب الأرجاء. ونرضي رب السماء، فنلقاه بإذنه راض ونعيش في هناء رفقة حبيب رب السماء وما أروعه من جزاء.
فابتسمت نور قائلة: وقد غلب السجع أميرة الشعراء، فضحك الجميع.
واستمرت جلسة النقاش في جو مفعم بالحنان والمحبة ورفع المعنويات. وهذا ما يميز أسرة أحمد. خاصة أن كثيرا من الأسر - بقصد أو عن غير قصد- تتفنن في تحطيم معنويات أبنائها كأمراض فقدان المناعة الذاتية، حين تهاجم الجسم فترديه مريضا هزيلا وضعيفا. ثم تتساءل بعد ذلك عن أسباب فشلهم.
ثم انفض الجمع للقيلولة بعد أن اتفقوا على زيارة بيت جدهم بعد صلاة العصر. وعم السكون البيت وخلد الجميع إلى الراحة. لكن هذا الصمت لم يدم طويلا.
فقبل أذان العصر بلحظات، اهتز الباب حتى عاد الصدى للجدران. هب أحمد إلى الباب فزعا. وما أن فتح الباب حتى جحظت عيناه في ذهول، فقد وجد جاره سعيد لدى الباب.
فابتدره قائلا: ماذا تريد منا؟ ألم يكفك ما فعلته بتلك المسكينة.
فأجابه سعيد والشرر يتطاير من عينيه والغيظ يكاد يشق أسنانه والغدر يطل من وجهه. كالقرش حين يضمر الانتقام ممن أذاه آنفا:
- أنتم السبب في تخريب حياتي وإقناع سوسن برفع دعوى خلع. لهذا سأخلع جذوركم جميعا.
قال هذا وهو يحمل خنجرا في يده ويمسكه باحترافية، استعدادا لغرسه في صدر أحدهم.
فتصدر له أحمد بلطف محاولا تهدئته ونور وراءه، وقد اجتمع الأبناء وراءها بعد سماع صوته المألوف لديهم.
وبعد هنيهة حاول عمر الخروج إليه، لكن نور أمسكت بذراعه، وأمرته أن يتراجع.
فصرخ سعيد في وجوههم وسب الدين ولعن أمهم وانطلق لسانه بفحش الكلام والشتم.
فاندفع أحمد نحوه ولكزه ثم سدد إليه ضربة لعله يفقد توازنه، فيسقط الخنجر من يده. ولكن للأسف خاب ظن أحمد وسبق القدر السبب.
وفجأة وعلى حين غرة، سدد إليه طعنة قاتلة في صدره، وقع على إثرها غارقا في دمائه، وفر هاربا والخنجر يقطر غدرا.
صرخت نور بقلب مكلوم وعيناها تتفقد وجه أحمد ويداها تتفقد نبضه:
- أحمد أحمد... يا رب احفظه ياااااااا رب.
وسارع عمر إلى الهاتف كي يطلب الإسعاف.
بينما التف الجميع حول أبيهم ودموعهم تنهمر حزنا على أبيهم الطيب. وحناجرهم تعلو بالدعاء الخاشع لله ألا يفارق أبوهم الحياة. أبوهم الذي ضحى بنفسه لأجل حماية عائلته. أما عائشة الصغيرة فقد انخرطت في بكاء حار يتفطر له الفؤاد. وعثمان يلثم وجه أبيه ويقول: لا تمت يا أبي، إننا في حاجة إليك.
أما يوسف فقد شل تفكيره تماما في بداية الأمر لحبه الشديد لأبيه. لكنه سرعان ما استعاد رباطة جأشه ورفع كفيه متضرعا إلى الله عز وجل لعل الله يرفع عنهم المصيبة التي نزلت بهم.
كفكفت فاطمة دموعها وهي تدعو الله تضرعا وخفية وسارعت لإسعاف والدها وإيقاف النزيف بمساعدة إخوتها، لكن الجرح كان بليغا وغائرا.
وما لبثت أن وصلت سيارة الإسعاف فنقلت أحمد بسرعة إلى مستشفى خاص ومعه نور وعمر وفاطمة. وظلت مريم في البيت تهدئ الجو رغم توترها الداخلي مستعينة بذكر الله وطلب العون منه، كيف لا والله سبحانه يقول في محكم التنزيل:
الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) سورة الرعد.
الصدمة كانت قوية جدا على كل الأسرة، خاصة أنها كانت مفاجئة. لكنها أسرة مؤمنة بقدر الله تعلم أن الدنيا دار بلاء.
نقل أحمد إلى المستشفى وأدخل بعد معاينة حالته إلى العناية الفائقة.
شرح الطبيب الوضع لفاطمة، فأخبرت والدتها وعمر أن الحالة حرجة جدا وأن الرجاء في الله وحده. فجلسوا جميعا ينتظرون فرج الله. ثم أوصت نور عمر بملازمة باب مصلحة الإنعاش ريثما تذهب هي وفاطمة لمسجد المستشفى حتى تصليا ركعتين تتضرعان فيهما إلى الله أن ينقذ أحمد. وكانت قلوب الجميع تخفق خوف كارثة تحوم في الأفق
|