رواية 22
نقدم لكم هنا رواية من كل بلد عربي. رواية قادرة على أن تنقل إليكم روح البلد الذي تجري أحداثها فيه. بعيداً عن كتب التاريخ الجافة، ونشرات الأخبار المملة، نتقرب من الناس هناك، محاولين أن نقرأ لهجاتهم، همومهم، أفراحهم، أحلامهم، بعض تقاليدهم، والأهم، ما يجري غالباً في ظلال شوارعهم، ولا يمكن إلا للراوي التقاطه.
رواية من سوريا: "قميص الليل"
فايز علام13.08.2014
تخطفك العبارة الأولى: "مات جيغا"، فيما تتابع العبارات التالية استلابك وترغمك على حب بطلٍ ميت، ثم تأتي العبارة الأخيرة لتبعث في روحك الأمل. تغلق كتابك بهدوء، تلبث في مكانك صامتاً دون حراك. نكأت جراحك هذه الرواية، لكنك مع ذلك تضمّها بحنين.
تقصّ "سوسن حسن" في روايتها "قميص الليل" وقائع يوم كامل في مدينة اللاذقية السورية، يوم يبدأ بموت "جيغا"، وينتهي بالخلاف على دفنه. "جيغا" يعيش في حي "الخرنوبة" منذ زمن بعيد، لكن لا أحد يعرف من أين أتى، ولا ما هي طائفته أو دينه، يعرفون فقط أنه "ينتمي إلى بطحة العرق في الدرجة الأولى، وما خلاها لا أحد يستطيع أن يتكهن بعالمه أو يسبر مجاهله".
ترسم الروائية ملامح الترقب والحذر التي يعيشها المجتمع السوري، مع دوي الرصاص والمدافع والانفجارات... احتمالات مفتوحة على المجهول، ولا شيء مؤكداً إلا أوراق النعي التي صارت على كل الجدران والأعمدة، فيما عداد الموت يتابع التهام الأجساد الطرية بعهرٍ قميء، وتجار الحرب يتابعون عدّ غنائمهم بفجور لا نهائي، فها هو "حسبي" استغل موت "جيغا" وانشغال الناس فأغلق بابه وأخذ يلهو لاعباً بالنقود التي جمعها من بيع المسروقات أو الأسلحة لسكان الحي.
لا تحاول الكاتبة فرض صوتها وأفكارها على الشخصيات. تفسح لـ"حسبي" المجال كي يعبّر عن نفسه، هو الذي سُجن خمسة عشر عاماً لأنه معارض لنظام الحكم، ثم خرج وعاش فصول الذل والهوان الطويلة، ليتحوّل بعد بدء الحرب إلى شخص كل همّه الانتقام لماضيه وجمع المال. "لا. لن أرضى بعد اليوم بأن أكون مثل حشرة تهيم على النفايات ولا تجد ما تعيش به. سوف أجني وأجني وأجني ولن يقف شيء في وجهي، سأجمع المال من فوق أنقاض دماركم، من فوق جثث ضحاياكم".
بموازاة هذه الشخصية اللا أخلاقية تبني شخصية أخرى تعكس فيها الجانب الأخلاقي لدى الإنسان، فـ"حياة" كاتبة، تجد نفسها في قلب الحدث الدامي، وعليها أن تختار موقفاً واضحاً من الطغيان، عليها أن تتحدى خوفها وتتجاوزه "أسئلتي تحاصرني وأنا أقف بمواجهة نفسي يعييني الجواب وهي تسألني أين أنا من المسؤولية؟". سرعان ما تتخذ قرارها وتنحاز لآلام الشعب، تواجه خوفها، تقف بثبات في أسفل درج البناء، تنظر إلى الجرذ الذي خافت منه طوال عمرها، ترفع قطعة الرخام وتهوي بها عليه، لقد قتلت خوفها من أشياء كثيرة!
غير أن وقوفها ضد النظام لن يرحمها من سوط الاتهامات الموجهة لها بسبب انتمائها إلى الطائفة العلوية، طائفة النظام الحاكم، كما لن تنجو من التخوين من قبل أقاربها، فهي بنظرهم تقف في صف المؤامرة على البلاد، وهي التي تزوجت رجلاً من طائفة أخرى فيما مضى. هكذا تلجأ الكاتبة إلى الحديث عن الطائفية مباشرة ودون مواربة. تسوق في روايتها الكثير من النقاشات التي بات الإنسان السوري يسمعها في كل جلسة عن هذا الموضوع، كاشفةً مدى تفكك النسيج الاجتماعي الذي لعب الإعلام الموجه دوراً كبيراً فيه، إذ صار هناك الـ"نحن" والـ"هم" بعد أن كان الجميع يعيشون إلى جوار بعضهم البعض.
ورغم أنها اختارت اللاذقية مكاناً لأحداث روايتها، إلا أن توليفة ذكية استخدمتها ستتيح لها إمكانية التحدث عن أمكنة أخرى، كـ"بابا عمرو" التي هربت منها هنودة ملتجئة إلى جيغا، و"حلب" التي يدرس ابنها "نوار" في جامعتها، ويشارك في المظاهرات وعمليات الإغاثة.
تتداخل الأزمنة مع تداخل الذكريات، تسرد الكاتبة كيف عاش الشعب السوري خلال أربعين عاماً، في جو من الخوف، وما هي الوسائل التي استخدمتها السلطة لتدجينه، سواء من خلال المدارس التي كانت تعلمهم "كيف نكون لا شيء كي نخدم الوطن"، أو عبر دروس "الفتوة" التي كانت "فترات زمنية مرصودة للإذلال والإهانة وتحطيم المعنويات"، أو بملء السجون بكل شخص معارض، وهو ما حصل مع زوجها السابق والد "نوار".
صور تتقافز من الماضي بعد أن حرّكها لدى "حياة" موت "جيغا"، فتقرر البدء بكتابة رواية عن هذه الشخصية التي كانت "رمزاً جامعاً لأهل الحي". تحاول النبش في ماضيه، تزور بعض أقاربها لسؤالهم عنه، لكن الأسئلة تقودها إلى متاهات أخرى، تغرق في تداعياتها. تعود بعد بضع زيارات إلى "حي الخرنوبة" في نهاية اليوم، لتجد الجثة وقد أصبحت مصدر مناوشات وجدالات بين الجميع، كل ما كان حبيس الصدور وجد متنفساً له ليظهر، الأحقاد التي تراكمت خلال فترة الحراك السوري ستعلن نفسها بفجور، كل طائفة ستتبرأ من انتماء "جيغا" لها، يتحول القتال على دفن الجثة إلى قتال على الوطن، هذا يقول "ثورة" وذاك يصرّ على أنها "مؤامرة" تستهدف البلد وأمنه. تظهر العداوات وتكال التهم، وتمور الكراهية في العيون. لقد "مات جيغا"!