اخبار الحوادث

Friday, July 10, 2009

الساعات الأخيرة الحلقة الاخيرة

الساعات الأخيرة

قصة مسلسلة منفصلة الحلقات

بقلم كل من :

ا. عماد حجاب

ا. يمنى حسن حافظ

د. أحمد مراد

الحلقة التاسعة

الرجل ذو الحقيبة السوداء

بقلم د. أحمد مراد

ببذلته الأنيقة وهندامه

وحقيبته السوداء الغامضة

استقل طارق ذلك الميكروباص ليذهب لهذا الموعد وليقابل ذلك الرجل ..

ما إن استقر بكرسية ..

حتى هز رأسه في أسى وقال .. (( يارب خدني بقى وريحني .. ))

كان الراكب الذي بجواره شاب ملتح هاديء الملامح .. وأخرج مصحفه وهم أن يقرأ به لولا أن طرقت جملة طارق مسامعه رغم خفوتها .. فلم يتمالك نفسه من الرد عليه قائلا ..

.. (( يا أخي لا يجوز شرعا أن تدعواعلى نفسك بالموت والهلاك مهما كانت معاناتك فالله أعلم هل الموت راحة لك أم بداية الشقاء .. ولكن المأثور أن تقول اللهم اجعل الحياة زيادة لي في كل خير .. واجعل الموت راحة لي من كل شر .. ))

نظر طارق إليه شذرا وهز يده بلا مبالاة ..

وانطلق بذكرياته الى هناك

إلى لحظة تخرجة من الجامعة ...

تخرج طارق من كلية الحاسبات والمعلومات بتقدير جيد ..

ورغم أن تقديره عادي جدا إلا أن طارق نفسه هو الغير عادي

فقد كان عبقريا وموهوبا بشكل غير عادي في البرمجة سواءا في مجال البرامج العادية والمتنوعة أو برمجة سكريبتات المواقع وتطويرها على شبكة الانترنت

وعلى الفور توجه الى أستاذه د. محمد الهنداوي

ودخل مكتبه وما إن رآه الرجل حتى قام واقفا وكأنما قد لاقى عزيزا عليه وقال له وهو يشير باصبعه نحوه .. (( أحذرك ألا تكون قد نجحت .. فوالله مهما كانت عبقريتك لن يتم تعيينك عندي في شركتي إلا بعد تخرجك .. فأنا أعرف أمثالك يمكنك العمل ببراعة قبل التخرج ولو حدث فلن تتخرج أبدا .... ))

ضحك طارق وقال .. (( الحمد لله رب العالمين .. فعلتها وبتقدير جيدا أيضا .. ))

شد الدكتور محمد على يده وقال له .. (( مبارك يا ولدي .. الآن أنا أهنيء نفسي أن اكتسبت شركتي عقلية فذة وموهبة رائعة تتمثل فيك أنت .. من الغد تكن عندي لتتسلم عملك رسميا .. ))

انطلق طارق بعد لقائه بالدكتور محمد وهو يشعر بالفرحة والسعادة تغمره

فالحمد لله قد تخصص في المجال الذي يحبه وبهذا يمكنه الإبداع فيه وهذا سر تميزه

وها قد حصل على فرصة عمل رائعة في كبرى شركات البرمجة وفي مكان يتمنى الجميع الوصول اليه ...

تسلم طارق عمله وبدأ مباشرة في آداء مهامه

وكما هو متوقع علا نجمه بسرعة ولمع ..

فالدكتور محمد الهنداوي شخص خبير يستطيع بسهولة أن يلمح الموهبة الكامنة والمعدن الحقيقي لكل شخص بسرعة .. وقد كانت نظرته في طارق ثاقبة وفي محلها

وتوقع أن تعلوا الشركة بسببه

وهذا ما حدث فقد ارتفعت مبيعات الشركة في القسم الذي يتبعه طارق بشكل غير مسبوق

ولهذا كان يعامل طارق كولده ولا يرفض له طلبا أبدا ولا يناقشه مطلقا فيما يريد

فهو يثق بأن وطننا العربي مليء بالمواهب والعباقرة الذين لا ينالون حقهم ولا حظهم من التقدير المادي والمعنوي وهذا سبب هجرة كل العقول المميزة للخارج حيث يلاقون هذا التقدير هناك .. ولهذا كان من ضمن خطته الاستراتيجية هي احتضان تلك العقول حين العثور عليها ومنحها بعضا مما يستحقون ..

وكان طارق أحد تلك العقول .. وكان هذا سر معاملته الخاصة التي كانت تثير غيرة الجميع بالرغم من اعترافهم بقدرات طارق ..

كان موعد انتهاء العمل بالشركة هو الثامنة مساءا ..

الجميع كان ينطلق كأنما قد لسعه عقرب حينما تدق الساعة معلنة انتهاء يوم العمل

أما طارق .. فلربما يقوم بكتابة كود لأحد البرامج ويسيطر عليه وعلى كل تفكيره فلا يشعر بالكون من حوله إلا بعد الانتهاء من هذا الكود وقد يتفاجيء بأن هذا قد حدث بعد منتصف الليل

وبالرغم من ذلك كان يشعر بنشوة خاصة وسعادة غامرة لمجرد نجاحه في آداء وإنهاء هذا الكود

كان يتمنى أن يجد من ينافسه

فروح المنافسة والتحدي تضفي متعة أخرى فوق هذه المتعة

وللأسف كل من حوله مجرد مؤدين يؤدون فقط المطلوب منهم

ليس هناك العقل الابتكاري الذي يهوى الخروج عن المألوف ..

كم يتمنى أن يجد هذا ..

وكأنما كانت أبواب السماء مفتحة حينما تمنى أمنيته هذا

ففي اليوم التالي اذا به يجد هذه المنافسة التي يتوق اليها

والعقل الابتكاري الذي يبدع ولا يسير على القضبان المرسومة له

إنها المهندسة فاتن ..

وهي حقا فاتنة ..

فبالرغم من ذكائها وعقلها وموهبتها وكل ما هو مميز مما دفع الدكتور محمد الهنداوي لتبنيها معه .. فعلي عكس المعتاد من أن العباقرة دوما لا يهتمون بمظهرهم ويكن هو آخر ما يشغل بالهم

كانت هي أنيقة في تكلف واضح

تهتم بأدق التفاصيل في ملبسها ومظهرها

وكان هذا يتناسب مع جمالها الأخاذ

وكان حظ طارق أنها معه بقسمه

وكما لفتت انتباهه بجمالها

فقد شغلته بعبقريتها وموهبتها ومنافستها له

وانطلق الاثنان في تلك المنافسة مما رفع من آداء الشركة بأكثر مما كان

كانت فاتن من النوعية التي تشعر بذاتها

تعلم بأنها جميلة وأنها محط اهتمام كل الأنظار حولها

تعلم بأنها عبقرية وموهوبة وتثق بأنها دوما الفائزة والمنتصرة في أي شيء تريده

أي شيء في أي مجال وفي أي مكان

وكانت ثقتها بنفسها تكاد أن تصل لحد الغرور

وكما كانت تتوقع حين تم تعيينها بشركة الدكتور الهنداوي ستكون هي نجمة هذه الشركة المتألقة بها ..

ولأن عينها اعتادت على التدقيق في كل التفاصيل .. فبالرغم من كفاءة طارق وبراعته إلا أنها كانت تتأفف بقوة من اهماله لمظهره

وبالرغم أيضا من أنها رأت في عينيه نظره اعجاب وانجذاب لجمالها في بداية تعرفها به

إلا أن ما ضايقها بعد ذلك هو تجاهله التام لمظهرها هذا واهتمامه فقط بالتنافس معها

وهي اعتادت أن تكون الأولى والأخاذة في كل شيء

ولذا قالتها له مرة ومباشرة .. (( لماذا تهمل مظهرك يا طارق ؟؟ ))

ضحك طارق وقال (( العباقرة هكذا دوما ثم إن العقل وقدراته أهم من تلك التوافه التي لا تشغل الا بال الحمقي .. ))

ازداد ضيقها من رده وكأن كلمة الحمقى موجهة لها وقالت له ..

.. (( جوهرة ثمينة قد لا تستطيع اظهار قيمتها اذا لففتها بغير عناية أو وضعتها بعلبة مهترئة .. وأخرى قد تكون مزورة ولكن العناية بها وبزينتها قد تجعلها ذات قيمة كبرى .. ))

صمت طارق برهة وقال .. (( كلامك مقنع جدا .. سأحاول ولكني لا أجيد العناية بالمظهر وربما لا أستطيع فعل هذا .. ))

ابتسمت فاتن بانتصار وقالت ..

.. (( دع هذه لي .. بعد يوم عمل نذهب سويا إلى أحد المولات الكبيرة وسوف أجعل منك كائنا آخر .. ))

وقد كان ..

ففي وسط دهشة وذهول الجميع دخل طارق الشركة في اليوم التالي ببذلته الأنيقة ورباط عنقه المحكم وحقيبته السوداء الرائعة ..

ولحظ طارق هذا الإنبهار وصفير المداعبة من زملائه

وشعر بالسعادة لأجل هذا

وشعر بالإمتنان لفاتن لأجل هذا ..

وبالطبع كان التطور الطبيعي بعدها بشهرين إعلان خطبة طارق وفاتن بعد ارتباط كل منهما بالآخر ..

بارك الدكتور الهنداوي لهما وقال أصبحت أخشى على نفسي من ارتباطكما هذا .. فيوما ما ستصبحون أصحاب أكبر شركة منافسة لي ..

ضحك طارق وقال له .. (( أنت أبانا وصاحب الفضل علينا يا دكتور محمد ولا يمكن أن نتخلى عنك أبدا .. ))

قهقهة الدكتور محمد وقال له وهو يغمز بعينيه ..

.. (( استعد اذا لأول اختبار لهذا الانتماء .. ))

نظر طارق نحوه متسائلا وقال له .. (( أي اختبار هذا ؟ .. ))

أغلق الدكتور محمد الباب حتى لا يستمع أي شخص اليه

وقال له وهو يربت على كتفه بحنان ..

.. (( أنا أعتبرك دوما ولدي يا طارق ولهذا أهتم للغاية بك .. ويهمني جدا أن تحقق كل أحلامك .. أعلم أنك من أسرة متوسطة الحال .. وأعلم جيدا من هي أسرة فاتن وأن أمر زواجك بها ليس هينا والعائد المادي بعملك عندي لن يكفي أبدا مهما علا لتحقيق مطالبك المادية .. ولهذا أخشى ما أخشاه على عبقريتك هذه أن تكون مطالب الحياة المادية هي أول مسمار في نعشها .. ولهذا .. فقد جئت لك بعقد عمل ممتاز وبعائد مادي خيالي بكبري شركات البرمجة بالمملكة العربية السعودية .. وهذا بالطبع مع وعد منك بأن تعود الينا حينما تشعر بأن مطالبك الشخصية والمادية قد تحققت .. ))

رغما عنه سالت دموع طارق والقي بنفسه على صدر الدكتور الهنداوي وهو يقول له ..

.. (( والله يا دكتور ولا أبي نفسه يمكنه أن يفعل لي مثلما تفعل معي .. ))

ضحك الدكتور هنداوي وقال له .. (( بالطبع لأنه ليس استاذ جامعي بكلية الهندسة وليس لديه شركة كبري في مجال البرمجة .. هيا كفكف دموعك هذه ولتأخذ أوراقك وتذهب حالا للسفارة السعودية لتبدأ في إجراءات السفر فالشركة هناك تنتظرك على أحر من الجمر .. ))

بعدها بدقائق كان طارق يقص على مسامع فاتن ما دار بينه وبين الدكتور هنداوي وهو مأخوذ ومتأثر جدا بهذا الموقف النبيل .. وهي تقول له .. (( الرجل حتما مكسبه بسبب أعمالك معه كان رائعا وهذه مكآفاة طبيعية على آدائك .. ))

قال لها طارق بصرامة .. (( في سوق العمل لا مشاعر والمفترض بحساب الربح والخسارة الذي تتحدثين عنه ألا يسعى ولا يحضر هذا العقد لي فالأفضل له أن أبقي معه لأدر له ربحا أكبر ))

كانت فاتن لا تحب أبدا أن تكون على خطأ

لهذا قالت محاولة تغيير دفة الحديث .. (( أروع ما في الدكتور هنداوي ان يسر لك الطريق كي تتمكن فعلا من أن تعد لنا بيتا رائعة للزوجية المستقبلية باذن الله .. ))

...

أخذ طارق عقد العمل ومعه الأرقام المطلوبة وتوجه للسفارة السعودية التي طلبت منه الكثير من الإجراءات الرسمية ومن ضمنها

عمل تحاليل طبية للكشف عن الإصابة بالإيدز وفيروس الالتهاب الكبدي الوبائي من الفئة سي والفئة بي ..

انغمس طارق عدة أيام في إنهاء هذه الإجراءت وحين قرر الذهاب للمعامل المركزية بوزارة الصحة المصرية لعمل التحاليل الطبية المطلوبة منه

نصحه صديقة على بعمل هذه التحاليل أولا بمعمل خاص قبل التوجه للمعامل المركزية

لأن نتيجة المعامل المركزية تذهب في مظروف مغلق الى السفارة السعودية دون أن تعلم ما بها ولو كانت النتيجة ايجابية لأي من الثلاثة سيتم تسجيل اسمك على كمبيوتر السفارة من الممنوعين من السفر للعمل بالمملكة السعودية ولا يمكن رفع اسمك بعدها أبدا

كان طارق مندهشا لهذا الطلب وهو يقول لعلي ومن أين ستأتيني هذه الفيروسات وها انا سليم أمامك كالحصان ..

قال له على .. لن تخسر شيئا اذا فعلتها للاطمئنان

وقد كان

وكانت المفاجأة القاسية أيضا

فطارق مصاب بالالتهاب الكبدي الوبائي من الفئة سي

لم يكن طارق مصدقا أبدا لنتيجة هذا التحليل

فذهب لطبيب مختص الذي طلب منه الكثير من الفحوصات المعملية التي أكدت أن طارق مصاب فعلا بفيروس سي وبنسبة عالية جدا وفي حالة نشطة

كان طارق فعلا يشكو في الفترة الأخيرة من الإجهاد الكبير ومن صفار خفيف ببياض العينين وكان يظن بأن سبب هذا هو الإجهاد والسهر الكثير في العمل

فهو في الفترة الأخيرة كان يبذل مجهودا أكثر مما يتحمل وفاءا للدكتور هنداوي

يظل طوال اليوم يجري يمينا وشمالا في محاولة انهاء اجراءات سفره

وآخر اليوم يتوجه للشركة ليقيم بها في محاولة لفعل المستحيل كرد للجميل لصاحب العمل

ولكن اتضح أن هذا الإجهاد لم يكن الا بسبب مرضه

وحينما أخبر صديقه على قال له

.. (( لا تخبر أحدا أبدا وسوف أجد لك حلا باذن الله .. ))

وبالطبع كانت فاتن هي المستثناه من هذا

ولهذا قابلها طارق وبعين باكية قال لها ..

.. (( أنا مريض يا فاتن .. ))

نظرت فاتن اليه متوجسة وقالت له .. (( عن أي مرض تتحدث وما الذي حدث ؟؟ .. ))

قص عليها طارق الأمر بالتفاصيل

وأخيرا أخبرها بأن حالة كبده سيئه وربما من الصعب علاجه

ظن طارق بأنه سيرى دموعها المنهمرة لأجله

أو أن تربت على كتفه وتطمئنه

أو أن تخبره بمساندتها له

ولكن كان رد فعلها أعجب وأقسى رد فعل ممكن

فبكل بساطة نزعت دبلة الخطوبة من اصبعها

وقال له بكل برود ..

.. (( معذرة يا طارق .. لن أتحمل ان اكون أرملة وأنا في عز شبابي .. ))

*****

أظلمت الدنيا فجأة في وجه طارق

فجأة شعر باليأس والإحباط من كل شيء

صدمة اصابته بفيروس سي وحالته المتردية

صدمة خسارته لفرصة السفر الرائعة

صدمة فاتن التي مزقته بسكين حاد وبكل برود

صدمات متتالية تهد الجبال

وقد هدته فعلا ..

ظل خمسة أيام بحجرته المظلمة لا يخرج منها ولا يحدث أحدا ولا يأكل ولا يشرب الا الكفاف

ولا يرد على جواله الذي لا يكف عن الرنين

وأخيرا دخل صديقه على اليه في حجرته

ليوبخه على موقفه هذا ويخبره بأنه قد جاء اليه بالحل لكل مشاكله

نظر طارق اليه مندهشا .. عن أي حلول سحرية يتحدث على ؟؟!!

قال له علي في حماس ..

.. (( ما هي مشاكلك الآن بالتحديد ؟ ))

قال له طارق بوهن ..

.. (( أولا صحتي المتدهورة وصعوبة العلاج .. والعلاج المتوفر مكلف للغاية ولا استطيع دفع نفقاته رغم آثاره الجانبية القاسية ..

وفقداني لفرصة العمل الرائعة

وفقداني لشريكة حياتي قبل أن تكتمل هذه الشركة .. ))

قال على في تردد .. (( دعك من الأخيرة وجئت اليك بحل الأولتين ..

أولا وجدت لك رجلا يعمل بالمعامل المركزية بوزارة الصحة يمكنه التلاعب بنتائج المعمل مع المقابل المناسب ..

وبهذا يمكنك السفر وتعود اليك فرصة السفر الرائعة وبالعائد المادي الخيالي يمكنك أن تتعالج .. فما رأيك ؟؟ .. ))

كان طارق وسط يأسه وإحباطه يرى بأن هذا هو الضوء الوحيد الذي بزغ له فجأه ليعيد اليه شيئا من الأمل .. فقال لعلي باهتمام ..

.. (( وما هو هذا المقابل المادي المناسب الذي يطلبه ؟؟ .. ))

قال على في تردد أيضا .. (( إنه يطلب مبلغ عشرون ألف جنيه .. ))

اتسعت عينا طارق في دهشة وقال له .. (( من أين لي بهذا المبلغ وقد أنفقت كل قرش معي في خطوبتي التعيسة هذه ؟؟ .. ))

قال له على .. (( انظر للعائد بعد دفع هذا المبلغ ولتتصرف بأي شكل كان .. لأنها فرصة لن تُعوض .. ))

شكره طارق على جهده وقال له .. (( سوف أتصرف باذن الله .. ))

.....

في ياليوم التالي كان طارق في الشركة في أول ظهور له منذ خمسة أيام

كانت عيناه منتفختان وحولهما هالة كبيرة سوداء وقد بدأ اللون الأصفر يزداد وضوحا ببياض عينيه ..ولهذا كان يرتدي منظار أسودا لم ينزعه حتى وهو بداخل الشركة وبعيدا عن الشمس

.. دخل الى مكتبه .. وكانت فاتن في المكتب المقابل له .. لم تعره انتباها ولم تحاول حتى أن تنظر نحوه .. واذا بها تجده واقفا أمامها .. همت أن ترفع وجهها وهي تحضر له جملة قاسية أخرى تفقده الأمل في أي محاولة للرجوع ولكنه قال لها في خفوت

.. (( مطلبي الأخير فقط ان يكون هذا المرض سرا بيننا ولا تخبري به أحدا .. هل يمكنني الثقة بك في هذا ؟ .. ))

هزت رأسها ببساطة وقالت له في اقتضاب .. (( يمكنك .. ))

عاد طارق الى مكتبه بكتفين متهدلين وجلس عليه وهو يحاول ان يبدأ عمله

والعجيب أنه كان يشعر بالعجز التام

فجاة ترهل عقله وفقد بريقه ولم يعد يستطيع العودة للسابق

حتى أنه يظل يراجع أعماله القديمة ويتعجب كيف أنجزها في السابق

وأخيرا أغلق طارق جهازه وظل شاردا ببصره في الفضاء يفكر في مشكلته

من أين يأتي بهذا المبلغ الذي لا يطيقه ؟

أصبح جل همه الآن هو السفر

وبأي شكل كان

وبأي طريقة مهما كانت غير مشروعة

وبدأ احساس الأنا يسيطر عليه بشكل غريب

وأخيرا برقت في ذهنه الفكرة

ورغم غرابتها الشديدة

ورغم أنه لو كانت وردت بخياله من قبل لذبح نفسه

الا أنه تقبلها ببساطة

وقال لنفسه

الرجل وسط أرباحه الطائلة لن يؤثر هذا امبلغ معه أبدا

ولكنه يؤثر معي ويتوقف عليه كل مستقبلي

وبالطبع لا يمكنه أن يطلب منه هذا المبلغ كسلفة لأنه سيتوجب عليه أن يكشف له سبب احتياجه له

وهذا هو المستحيل فلن يمكنه كشف السبب

ولهذا

ولأنه يمكنه السهر وحده بالشركة والثقة فيه مطلقة

رتب أن يطيل السهر هذه الليلة

وأخيرا وبعد أن أصبح وحده

تسلل لحجرة الحسابات ولكن للأسف كانت مغلقة باحكام

ولن يمكنه دخولها

وفي اليوم التالي دخلها ليلقي السلام على توفيق المحاسب وليري على أرض الواقع وسيلة للوصول الى أموال الشركة

واذا به يرى مفاتيح توفيق ملقاة باهمال بأحد جوانب مكتبه واذا بالصدفة تخدمه فقد اتصل الدكتور هنداوي بتوفيق ليستدعيه .. ولأن الثقة في طارق عالية جدا فقد تركه توفيق وانطلق ليلبي مطلب الدكتور فما كان من طارق إلا أن أخذ المفاتيح ووضعه في جيبه وانطلق الى خارج الشركة ليصنع منها نسخة بسرعة وفي خلال نصف الساعة عاد الى توفيق الذي كان منهمكا في أعماله وارتكن طارق على مكتبة والمفاتيح في قبضته ثم القاها على الأرض في مشهد يوحي بأنه أوقعها بيده من فوق المكتب ورفعها ليعيطها الى توفيق وانطلق بعد أن أنهى حواره المفتعل معه ..

وفي آخر الليل كان ينطلق بحقيبته المليئة بالأموال التي سرقها وهو يرى بان ما فعله لا شيء فيه ..

فهو يشعر بأنه مظلوم في هذا الحياة

فهو عبقري ولكن لا يأخذ حقه ولا مكانته

وحينما أتته الفرصة كادت أن تضيع بسبب مرض غريب لا يعرف مصدره

فلما يقع عليه هذا الظلم ؟؟

ولم هو بالذات يحدث له هذا ؟

لما لا يكون متفوقا متألقا صاحب أعمال وثروات ويمن على الناس مثل الدكتور هنداوي

كان موعده في اليوم التالي صباحا باكرا لملاقاة الرجل الذي يعمل بوزارة الصحة ليعطيه المبلغ وليحدد معه وسيلة التلاعب بالنتائج

كان الصبي ينادي على الركاب قائلا المؤسسة عبود

فاستقلها ليقابل الرجل في شبرا الخيمة في المكان المتفق عليه

أمسك بحقيبته بعناية ورغما عنه تذكر الموقف الذي احتضنه فيه الدكتور هنداوي وهو يقول له بأنه يعده ولده

واذا به يشعر بتأنيب كبير للضمير

شعر بان كل حياته تتداخل بشكل عجيب ومأساوي وأنها مرتبكة جدا و لم تعد طبيعية أبدا

شعر بالألم

وفي نفس الوقت لا يمكنه التراجع

فهذا يعني له الموت

فقال مرددا دون أن يشعر بأن صوته مسموع

.. (( يارب خدني بقى وريحني .. ))

ليرد عليه الملتحي الذي بجواره

ولتقع بعدها الواقعة قبل أن يصل لمقابلة الرجل

......

دخل كريم على العميد التوني وهو يقول له .. (( سيادة العميد هناك .. ))

قاطعة العميد التوني قائلا .. (( مفاجئة جديدة .. اعلم هذا هيا ائتني بها ومباشرة بلا تأخير لقد مللت مفاجئاتك وعجائبك ..

بهت كريم برد العميد التوني وقال له مترددا

.. (( قضية ميكروباص الطريق الدائري ستتفرع عنها قضية أخري عجيبة تتبع مباحث الأموال العامة .. فالشاب المسمى طارق كان يحمل مبلغا كبيرا من المال وكلها أموالا مزورة .. ))

هز العميد التوني يديه بتعجب وهو يقول .. (( من كان يتخيل أن هذا الحادث يحمل هذا الكم من الأهوال ؟؟ .. أنا أرى هذا الميكروباص وبحادثه هذا قد حمل بين جنباته الكثير والكثير من كل مفارقات الحياة وعجائبها .. فلتطلب لي إدارة الأموال العامة لنحول هذه الأموال والقضية لهم .. ))

وتحولت القضية التي بدأ البحث والتحقيق فيها لتظهر بعد ذلك المفاجئات التي أذهلت الجميع

سرقة طارق للرجل الطيب الذي كان يعده كولده

ووقوع توفيق بأمواله المزورة التي كان يدسها بالخزانه ليوزعها مع الرواتب

......

مشهد قصصنا بدايته

ولم نكمله

وأود أن أختم به هذه القصة وأودعكم به ..

حينما كان الشاب الملتحي الهاديء يحدث طارق ولوح له طارق بغير عناية واندفع في ذكرياته ..

حاول الشاب بعدها أن يتجاهل الأمر ويقرأ في مصحفة ولكن لم يستطع التركيز في حرف واحد من أي آية قرأها ..

الأفضل له من وجهة النظر العادية أن يترك الشاب في حاله ويريح نفسه من عنت الجدال معه

ولكن ..

رب كلمة واحدة تقولها بإخلاص وتكون سببا في تغيير مصير انسان

كم من شخص قال جملة وكانت سببا في هداية شخص

ولذا آثر أن يترك السلبية وأن يكون ايجابيا

فقال لطارق ..

.. (( ما بك يا أخي أشعر أنك تحمل جبالا من الهموم .. ))

وكأنما كانت جملته هذه هي المفتاح لأن ينطلق طارق ويقص عليه كل شيء باختصار كأنما يريد أن يزيح عن صدره كل الهموم

ابتسم الشاب الملتحي وربت على كتف طارق وهو يقول

(( .. أولا يا أخي عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ..

من أدراك أن الغني والرزق الواسع ربما كان مصدرا للتعاسة لك ؟ .. فكم من ثري لا ينام الليل تؤرقه المشاكل والهموم ..

وكم من رجل بسيط ينام في ليله وقلبه مطمئن والسعادة تغمره رغم الحاجة .. فالسعادة شعور داخلي يمنحه الله لمن يشاء ولا ارتباط فيها بالغني والفقر

ومن أدراك أن خطيبتك هذه كانت هي مصدر الشقاء لك لو تمت هذه الزيجة ؟؟

فليس كل ما تطلبه وترغبه هو الصالح لك

فالطفل الصغير ربما يطلب أكلة ويبكي بكاءا مرا لأجلها ولكن منعها الطبيب عنه لأجل مصلحته لأنه بتناولها ستزداد حالته سوءا

كذلك كل أمورنا في حياتنا .. والله عز وجل أرحم بنا من الأم بوليدها

ثق أن ما أصابك ما كان ليخطئك

وما أخطئك ما كان ليصيبك

وثق أيضا أن أكثر الناس بلاءا هم الأنبياء ثم الصالحون من بعدهم

ومعنى أن ابتلاك الله فهو اصطفاء لك

فهنيئا لك أخي الحبيب بشرط أن تصبر وترضى بقضاء الله عز وجل

وأن تسعى دوما فيما يرضى الله عز وجل لا ما يغضبه ويسخطه .. ))

كانت كلمات الشاب تهبط على قلب طارق بردا وسلاما

كانت تشفيه من كل همومة وغمومه وآلامه

ولكن عند تذكره للمبلغ المسروق من أفضل الناس ومن صاحب كل الأفضال عليه

عادت الغصة تحرق حلقه

فلم يجد حرجا لأن يخبر الشاب بها ويسأله ما الحل

فقال له الشاب ببساطة

.. (( أعد هذا المبللغ لموضعه وابتعد عن الرشوة سبب اللعنة

وتب الى الله عز وجل توبة صادقة واستغفره .. ))

قال طارق بخشوع .. (( أستغفر الله العظيم من كل ذنب عظيم ))

وهم أن ينادي على السائق ليتوقف وينزله

ولكن فوجيء بالسيارة تتمايل في مشهد عجيب

وصراخ الناس يعلوا

فما كان منه إلا ان صرخ بقوة معهم لكي يفيق السائق

فما يهمه الآن هو أن يعيد هذا المبلغ قبل أن تقع الواقعة

ولكن

سبق السيف العذل

تمت بحمد الله

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

Sunday, July 5, 2009

الساعات الأخيرة قصة مسلسلة منفصلة الحلقات الست أمينة

الساعات الأخيرة

قصة مسلسلة منفصلة الحلقات

بقلم كل من :

ا. عماد حجاب

ا. يمنى حسن حافظ

د. أحمد مراد

الحلقة الثامنة

الست أمينة

بقلم ا. يمنى حسن حافظ

تشنج الجسد النحيل فوق الفراش تشنجات مؤلمه....كتمت المرأه المتألمة المها بكفى يدها ....ثم مالبثت ان عضت كفها حتى لا تخرج الصرخات من بين شفتيها وتوقظ ابنتها التى رقدت على الفراش المجاور وقد احتضنت بين ذراعيها طفلين جميلين ينامان فى وداعة وهدوء.....

تقلبت الست امينه يسارا ويمينا ...حاولت النهوض لتجلس ولكن الالم فى جانبها يكاد يفتك بها....تصبب جبينها عرقا كثيفا....تبللت الوساده بدموعها المنهمره....فآهة افلتت من بين شفتيها كانت كفيلة بإيقاظ ابنتها هديل فهبت فزعة وقد تهدجت انفاسها وتلاحقت وهى تستند بيدها على فراش امها لتمنع جسدها من السقوط....فمازالت آثار النعاس بين جفنيها تمنعها من الرؤية الجيده...

فالساعة لم تكن قد تجاوزت السادسة صباحا ولم تنم هديل سوى ساعتين فقط منذ كانت تجلس بجوار والدتها من ليلة الامس حتى نامت واستراحت من الالام الكلى التى اصبحت تهاجمها الان كل يوم....

عضت الست امينه مره اخرى على يدها ثم ظلت تتقلب وتتشنج وتكور جسدها فى الفراش وهى تدعو الله بين المها ان يخفف عنها...وان يمد فى عمرها لتستطيع ان تعين ابنتها الارمله ...بعد فقدت زوجها اشرف العام الماضى...فقد كان سقوطه من فوق السقالات من على ارتفاع ثمانية امتار...فى موقع العمل الخاص به ...صدمة ...

ودخولة فى غيبوبة ....صدمة اخرى ولم تفق منها وعانت الامرين فى تمريضه والجلوس بجواره والذهاب للاطباء بتقاريره الطبيه واستدعاء اطباء آخرين عسى كانت النتائج مختلفه .... شهرين او يزيد فى وهو فى تلك الغيبوبه حتى صدمت مره اخيره حين فارق الحياة .......عام مضى ولا زالت تنام محتضنة طفليها وكأنها تخاف ان تفقدهما ....كما فقدت والدهما...تخاف ان تتركهما يلهوان بعيدا عن عينيها.....تحيطهما بعناية ورعاية فائقة......لولا امها لكانت جنت...خاصة ان لا اخ لها ولا اخت ....وان الشقه التى كانت تعيش فيها مع زوجها خمس سنوات فى مدينة غارب تخص قريب له وقد حاول ان يتزوجها من بعد اشرف وحين رفضت طالبها بالخروج من الشقه....فخرجت وعادت الى بيت والدتها فى القاهره لتعيش معها......تؤنس وحدتها بعد ان صارتا ارملتين.....

كانت تلك الافكار تدور فى عقل الست امينه وهى تنظر لابنتها التى هرعت تأتيها بكوب ماء ...وتربت على جبينها وتمسح عنه حبات العرق المتساقطه....

حتى سكن الجسد المتهالك.....هدأت الالام......انتهت النوبه بعد ان انهكت قلب الست امينه....واعتصرت قلب ابنتها هديل....

نامت الست امينه فى حين هرعت هديل الى الهاتف تجرى مكالمة هامه......

............ ......... ......... ......... .......

جلس الرجل وزوجته فى شرفة منزلهما الكبير يهمسان بصوت يكاد لا يسمع ...قالت المرأه وقد غلبتها دموعها :هانعمل ايه يا محمد؟ نسمه بنتنا هاتضيع ...يارب رحمتك يارب

قال الرجل وهو يحاول ان يظهر التماسك امام زوجته الا انه فشل فخرج صوته متحشرجه وهو يقول :اعمل ايه يا زينب؟؟ مفيش فلوس خلاص....وبعت العربيه والشقه لو تمليك كنت بعتها هى كمان ..وادى فلوس القرض الحسن الخاصه بالعمل انتهت ....وانا لا اريد ان اقترض من البنك لعلاجها.....والجلسات فى مراكز الغسيل الكلوى اسعارها كما تعرفين غاليه ....انا حاسس انى واقف عاجز وبنتى بتموت.....

قالت بضعف : يعنى لو فعلا اسمها مش موجود فى القايمه يبقى كده خلاص؟؟

قال محمد بصوت مرتجف :يبقى نصيب.... قال لى الرجل المسئول ان الاعداد المتقدمه كبيره جدا وان المرضى بالفشل الكلوى عددهم كبير جدا يا زينب...وقائمه الانتظار طويله جدا...والاجهزه لا تحتمل كل هذه الاعداد ...ولابد من اختيار عددا محددا فقط ليستطيع ان يتم جلسات الغسيل مجانا....

بكت الست زينب وهى تضع يديها فوق راسها وتقول :لطفك يارب....لطفك....

ثم كانها تذكرت فجأه شيئا هاما فقالت وهى تمسح دموعها :ناخذ قرض من البنك ونعمل عملية نقل الكليه....احنا فى حاله اضطرار يا محمد وربنا عارف ومطلع ...

قال محمد وهو يفكر :تفتكرى كده يبقى حلال؟؟

قرض بنك ؟؟ وكمان عملية نقل اعضاء؟؟ انا قلبى غير مرتاح يا زينب ...ومن يتق الله يجعل له مخرجا....

قالت وقد انهارت آمالها : يعنى بنتى هاتموت؟؟ ليه كده ؟؟........استغفر الله العظيم

قال وهو يضع يده فوق شفتيها : قولى ورايا يا زينب "اللهم انى لا اسالك رد القضاء ولكنى اسالك اللطف فيه "..

وخلف باب الشرفه المغلقه كانت نسمه تقف هناك وبين يديها هاتف والدها المحمول الجديد والذى استبدله منذ اسبوعين بعد ان باع هاتفه الاحدث واشترى هذا القديم بدلا منه....

وقد تسمرت قدماها حين سمعت رغما عنها هذا الحديث عن مرضها .....

وتراصت فى مخيلتها صورتها فى جلسات الغسيل الكلوى التى كانت تجريها منذ شهر مضى وكانت تنهكها..تماما ..حتى ان المره السابقه ارتفع ضغطها ليصل الى 200 وعلى اثره نزف انفها .....وكادت ان تموت....

كانت قد تصورت انها شفيت...لذلك لم تعد هناك حاجة لتلك الجلسات المرهقه والمتعبه ..ولم تكن تتخيل ان النقود مع والدها قد نفذت ...وانها لاتزال فى مرحلة الخطر...........وكيف يستوعب عقلها ذو السبعة عشر عاما انها ستخرج من الحياة قبل ان تستطيع ان تخطوا فيها قدرا من الاعوام؟؟

سعلت وهى تحاول ان تنبه والديها لانها فى الحجره المجاوره فهب والدها يفتح النافذه فناولته الهاتف على عجل وهى تقول بابتسامة شاحبه : لقد دق الهاتف كثيرا ....سأصنع لكما كوبين من الشاى بالنعناع ...لتشربه انت و والدتى فى الشرفه كما تعودتما يا والدى ...ما رايك؟؟

نظر لها والدها باسف واسى وقال :تسلم ايدك يا نسمه ....شكرا يا حبيبتى

ودخل الى الشرفه مره اخرى وهو ينظر الى شاشة هاتفه المحمول التى تحمل رقما يعرفه جيدا....رقم الطبيب الذى يحاول اقناعه بشتى الطرق بعمل عملية نقل كلى لنسمه ...فى مركز خاص لمثل هذه العمليات....وستكلفه حوالى ثلاثون الف جنيها للمتبرع فقط....غيرتكاليف التحاليل والفحوصات التى ستجرى لكل من ابنته والمتبرع ....... هذا الى جانب مصاريف العمليه واجر الطبيب والعنايه الطبيه التابعه للعمليه لكلا من الاثنين ابنته والمتبرع على حد سواء ...واضافة الى اجر المستشفى .....ولكن مالا يدركه ذلك الطبيب الحريص على جمع المال ان الاستاذ محمد قد نفذت نقوده ....كما ينفذ الوقت الباقى لابنته نسمه قبل ان تتدهور حالتها وتصير مجرد جسد هزيل يرقد ينتظر الموت....

............ ......... ......... ......... ......... .. ............ ......

دق الهاتف طويلا...فقد كان الحاج عوض لا يزال ناعسا على الاريكه امام النافذة المفتوحه والتى يدخل منها نسيم الصباح المنعش ....كعادته بعد ان يعود من صلاة الفجر فى المسجد ...يفتح النافذه الكبيره وينعس قليلا ثم ينهض ليراعى مصالح اخوته فى الارض التى يمتلكونها وورثوها عن والدهم رحمه الله,,,,

تبرم الحاج عوض منزعجا من هذا الرنين المزعج....ونهض بتكاسل شديد ليرفع السماعه ويجيب بصوته الجهورى :ايييوه...مين؟؟

فآتاه صوت ابنة شقيقته هديل تقول فى لهجة اقرب للتوسل :ايوه يا خال.....انا هديــ.......

قاطعها بسرعه وقال متاففا :اييوه يا ست هديل ...خيرعلى الصبح يا بنت اختى....امك جرالها حاجه؟؟

تهدج صوت هديل وتقطع وهى تقول فى صوت يرتعش :تعبانه والله يا خال...ولسه جايالها النوبه وكنت باتصل بيك عشا.........

قاطعها مره اخرى وقال فى فظاظه :عشان ايه يا بنت اختى؟؟موضوع الارض تانى ؟؟ ولا عايزه فلوس؟؟

استعادت هديل صوتها وقالت بقوه :من فضلك يا خالى...امى وعايزه تبيع نصيبها....عشان تتعالج ولا راضى انك تشترى بسعر السوق ولا راضى انها تبيع لغيرك كده حرام....

هب صارخا فيها وهوة يقول :حرمت عليكى عيشتك يا شيخه.....حرام؟؟ انتى بتقوليلى انا حرام؟؟؟؟ مين انتى عشان تعرفى الحلال من الحرام يا بنت امبارح انتى؟؟؟بلاش قلة حيا اومال واتحشمى وانتى بتكلمى خالك الكبير يا بت.....عايزينى ابيع الارض؟؟؟ عشان ايه وعلاج ايه ده ال عايز الوف والوف؟؟ها؟؟ولا دى حركات من بتاعت امك عشان تاخد الورث؟؟؟؟ ماناى عارف امك طول عمرها مستعريه منينا اكمننا فلاحين ...وهى عاشت واتجوزت فى مصر وعجبتها عيشة مصر حتى بعد ما بقت ست وحدانيه ولا راجل ولا سند ولا حاجه خالص....قالت مش راجعه البلد ...هى دى الاصول؟؟؟

ظل الرجل يصرخ ويهدد ويتوعد وهديل تبكى ولا تستطيع ان تصدق نفسها ان هذا هو خالها...شقيق والدتها....ويتمسك بالارض والمال ...وضعت السماعه بياس وهى تشعر بان الحياة ضاقت عليها...فهاهى تفقد زوجها ...وجلست تراقبه وهو يذبل ويذوى ...كما تراقب والدتها وهى تشحب وتنهار يوما بعد يوم...

دق الهاتف ...جففت دموعها ورفعت السماعه فى تخاذل ...فجاء الصوت من السماعه مهللا مبتهجا ..فرحا يزف اليها نبا سعيد لم تكن تتوقعه فى ظل احداث اليومين السابقين.....

كان صوت فاروق ابن عم والدها رحمه الله ...والذى يعمل فى المستشفى الحكومى التى تعالج فيها والدتها من حاله الفشل الكلوى...يخبرها بان اسم والدتها قد انضم لقائمة المرشحين لنيل جلسات العلاج والغسيل الكلوى المجانيه وان غدا هو اول يوم لتلقى العلاج وانها لابد ان تحضر للمستشفى مبكرا حتى تستطيع ان تنهى جلستها مبكرا دون الحاجه للانتظار.........

اغلقت هديل الهاتف وهى تتمتم بكلمات :سبحان الله ...ماضاقت الا وقد فرجت ...

............ ......... ......... ......... .

استيقظت الست امينه مبكرا.......وكانت هديل قد ارتدت ملابسها هى الاخرى وقد ارتدى طفلاها ملابس الذهاب للخارج ايضا ....ما ان خرجت والدتها من الحجره الا وقالت لها :هيا يا امى حتى لا نتأخر لقد قال فاروق ان الميعاد كلما كان مبكرا كلما كان افضل....

قالت والدتها بعفويه : هاتاخدى الولاد معانا؟؟

وقبل ان تجيب هديل التى كانت تحمل الطفل الصغيرفوجئت به يتقئ ملوثا ثيابها .....

فقالت ....:ساغير له واكون جاهزه فورا

قالت الام وهى تضع شفتيها على جبينه لتستشعر حرارته :الولد شكله تعبان يا هديل وحرارته عاليه ...ساذهب بمفردى ولا تقلقى ....ومعى فاروق لن يتركنى...

ترددت هديل وما لبثت ان وافقت مجبره حين واصل صغيرها التقيؤ وهو فوق ذراعيها.......

وبالفعل خرجت الست امينه مسرعة ونادتها هديل وناولتها هاتفها المحمول الخاص بها وقالت :ضعيه معك يا امى سارسل لشراء كارت مباشر واكلمك حتى اطمئن عليكى...

قالت الست امينه بعفويه وهى تقلب الجهاز بين يديها : والله شكلى ما هاعرف استخدمه يا بنتى ....

واصرت هديل وامام اصرارها وافقت امها ووضعت الهاتف فى حقيبتها...وهرولت بامل فى الحياه نحو موقف الميكروباص وهى ترسم امالا لحياة خاليه من ذلك الالم المفزع الذى يهاجمها ...افاقت حين لكزها ذلك الشاب وهو يصعد قبلها لياخذ مكانها فى الميكروباص حتى انها كادت ان تنكفئ على وجهها فقالت بسرعه وبوهن :يابنى حرام عليك كنت حتوقعنى..!!

لا يلتفت إليه و يهملها و كأنها لا تكلمه فتحدثه بلهجة رجاء : يا ابنى أنا با غسل الكلى و اتأخرت على دورى فى المستشفى..!!

يبدو الضيق على كل الركاب و تتعالى طقطقات الاستنكار

فقال الشاب بكل عدم اهتمام : أنا كمان مستعجل يا حاجة

فيتدخل شاب آخر فى الحوار ويقول :

يا أخى حرام عليك بتقولك عيانة فيرد عليه : (بسماجة) متنزل انت وركبها ... و لا لازم تبقشش من جيبى أنا؟؟

فينهض الشاب عادل بمنتهى الشهامه ويجعلها تاخذ مكانه بعد اصرار والحاح منه فتركب الست امينه وهى تدعو له كثيرا ........

............ ......... ......... ......... ......... .. ........

وقف فاروق العامل فى قسم الغسيل الكلوى بالمستشفى الحكومى يراجع القائمه الخاصه باسماء المرضى المختاره اسمائهم لجلسات الغسيل الكلوى المجانيه.....

وهو يبتسم ابتسامة رضا حين راى اسم الست امينه من ضمن الاسماء ....ولكن ما لبث ان تبع الابتسامه نظرة قلق حين نظر الى ساعته التى تشير الى التاسعه ...ولم تحضر الست امينه بعد كما اتفق مع ابنتها ....

وافاق على سؤال من الاستاذ محمد يسال عن الاسماء الوارده فى القائمه عسى كان اسم نسمة ابنته من ضمن هذه الاسماء السعيده الحظ.فقال : اسم بنتى نسمه محمد موجود؟؟

رفع فاروق عينيه يتأمل الفتاه النحيله ذات العيون السوداء وهى تقف متكئة فى وهن على ذراع والديها........

ثم راجع ببصره القائمه ....وتردد قليلا ثم قال بلا اهتمام : معلش يا استاذ ....الاسم مش موجود....

تبادل الاستاذ محمد وزوجته النظرات الحزينه فى حين قالت زوجته بلهجة استجداء: يابنى شوف تانى كده....يمكن الاسم يكون فى الصفحه التانيه..!!!

شعرفاروق بحرج شديد وهو يهرب بعينيه من نظرات الفتاه التى وقفت صامته وقال :لا يا امى ..صدقينى...والله لو اقدر اخدمك عمرى ما اتاخر ابدا....لكن ده نظام ودور واولويه....

انفجرت الام فى البكاء فى حين وقفت الفتاه تربت على كتفيها وهى تقول بصوت واهن وضعيف : خلاص يا ماما ....انا تعبانه من الوقوف ...عايزه اروح البيت....

احضر فاروق الكرسى للفتاه بسرعه وهو يقول : ارتاحى قليلا ....وسارى ماذا استطيع ان افعل..!!

شكره والدا الفتاه بشده ووقفا بجوار ابنتهما التى اخذت تتطلع فى الوجه المريضه والتى ذكرتها بما هى فيه وبالنهايه التى تنتظرها ...فادمعت عيناها وظلت تبكى دون صوت....

............ ......... ......

كان الميكروباص يسير بسرعه صاروخيه وكانت الست امينه تجلس فيه تنتظر وصولها للمستشفى... بفارغ الصبر ...وكانت صوت الاغنيات عاليه فما كان منها الا ان طلبت من السائق ان يخفض الصوت....ولكن لا حياة لمن ينادى.......

وفجأه تعالت اصوات الركاب وطارت السياره فى الهواء وانقلبت وتعالت صرخاتها .....ثم حدثت الماساه.......وهدأ كل شئ....

ووقف العميد التونى يشاهد الاجساد الملقاة هنا وهناك ....واقبل عليه كريم وهو يحمل بين يديه هاتف محمولا يدق باصرار ....وقال له :هذا الهاتف كان فى حقيبة السيده العجوز ....وناوله اوراقها والتى دون فيها اسم المرأه المتوفاه ..........اسم الست امينه

............ ......... ......... ......... ......

من بعيد وقف فاروق لا يستطيع ان يزيح بصره عن وجه الفتاه الحزينه....ويراجع مره اخرى القائمة التى بين يديه......ثم يعيد الاتصال بهديل ليتعجل حضور والدتها سريعها ولكن الهاتف يدق ويدق دون ان يجيب عليه احد...........وقد قاربت الساعه على الحادية عشر والنصف ظهرا....

تأمل التعابير الدقيقه للفتاه والتى اتى عليها المرض بشحوب عجيب....يتامل لهفة والديها عليها....وقد امتقع وجهيهما بشكل مخيف.....ظل بصره معلقا لفتره ليست بالقصيره .....نعم كان يرى الحالات المرضيه من هذا النوع يوميا امامه الا ان هذه الحاله بالذات كان لها تاثيرا كبيرا عليه....نعم حاله نسمه بالذات...لماذا؟؟

هو فقط يعلم.....

............ ......... ......... .

دق هاتف فاروق برقم هديل فاجاب بسرعه وقال : ايوه يا هديل ...اتأخرتوا ليه ؟؟

ولكن اجابه صوت آخر لرجل يقول :مين معايا؟؟

اجاب فاروق وقد شعر بان هناك شيئا غريبا وغير مالوف فعرفه بنفسه ...

وسمع فاروق الخبر الغريب ...سمع بخبر وفاة الست امينه وهى فى طريقها للمستشفى...

ولم يستطع ان يقول شيئا ....فالتفت ببصره باحثا عن الاستاذ محمد وابنته نسمه...التى كانا قد تحركا بالفعل يهمون بالمغادره بعد ان استراحت الفتاه......

فقفز بين المرضى بسرعه يلحق بهم....

امسك الاستاذ محمد من كتفه وقال وهو يلهث :استنى يا استاذ ....اسم البنت بالكامل نسمه محمد حسنين؟؟

تهلل وجه الرجل وقال بهفه : نعم....بالضبط...

فقال فاروق وهو ينظر للفتاه :اسمك موجود....اسمك موجود يا نسمه...

ضحكت نسمه بين دموعها وانفجرت الام تبكى وتضحك وتدعوا الله له بالا يسيئه فى حبيب له ....

فى حين مال هو على نسمه وقال لها :ادعى للست امينه بالرحمه

فقالت له بتعجب :والدتك ؟؟

قال لها وهو يبتسم شبح ابتسامه : نعم ...

وامسك قلمه وهو يهز راسه غير مصدق....واعاد كتابة الاسم الذى كان قد شطب عليه من قبل الى القائمه..........اسم نسمه بدلا من اسم الست امينه..........

نعم فقد كان هو من بدل الاسمين فى البدايه فى محاولة منه لخدمة الست امينه قريبته ....مع ان نسمه كانت الاولى بالعلاج ...ومن كان اسمها فى القائمة من البدايه .........فكر كثيرا ودبر وكاد ان ينجح لولا ان الله كان له تدبيرات اخرى سبحانه......

-----

يتبع بإذن الله

منقول

Engageya